الشرق والغرب.. تضييق الفجوة ممكن

TT

بضع دقائق قُبيل بلوغ القطار المحطة، تنطلق رسالة مسجلة تنبّه المسافرين لفجوة تفصل عربات القطار عن الرصيف (PLEASE MIND THE GAP). اعتدت هذا الأمر في أغلب محطات لندن. حسنا، أعني تلك التي أمر بها منذ ما يزيد على ثلاثين سنة، ولا أدري إن كان الأمر يحصل في دول أخرى غير بريطانيا العُظمى. هل قلت «عظمى»؟ نعم. حسنا، أتعجز وارثة إمبراطورية تمدد ذراعها من الهند إلى جزر الفوكلاند، وكان لها باع السبق في مد خطوط سكك الحديد، وتصنيع القطارات، عن سد الهوة ما بين العربات وأرصفة المحطات حتى ونحن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟ كلا، لا بد أن في الأمر خللا ما. ربما هو نوع من التراخي، الكسل، أو لعل التقشف في الإنفاق أوصل إلى التغاضي عن ذلك الفارق الضئيل بين العربة والرصيف، أمام عظمة أول خطوط مواصلات تبتلع ملايين البشر داخل قطارات تجري في أنفاق تتلوى تحت الأرض لتصل الشرق بالغرب مرورا بالوسط، والشمال بالجنوب لتبلغ أقاصي الأطراف؟ في الواقع، يصعب على العقل أن يتقبل أيا من تلك التفسيرات، إذ يستحيل أن يسمح بلد مثل بريطانيا باستمرار مثل ذلك الخطر، الأرجح أن ثمة سببا تقنيا محضا يجعل من المستحيل ردم تلك الهوة.

والحال هكذا، إنْ استحال سدُ فجوة بين عربة قطار ورصيف محطة في دولة بمثل إمكانات بريطانيا لسبب تقني، هل يسهل «ردم هوة التواصل بين الشرق والغرب» على رغم تعقيدات الفروق بينهما؟ أسارع إلى توضيح أن السؤال هو عنوان ينتظم تحته «منتدى العربية للحوار الدولي» الذي يبدأ ويُختتم بعد غد (السبت) في دُبي، حيث مقر قناة العربية. قبل المباشرة في محاولة الإجابة عن السؤال، يجب أن ألحظ، بإعجاب، اختزال وقت المنتدى في يوم واحد فقط رغم أنه يشتمل على ثلاث جلسات عنوان كل منها يوحي بأن ما سيثار من نقاش خلالها بالغ الأهمية. حقا، اختصار الوقت تدبير لافت، وتنبّه جيد لطبيعة زماننا هذا، إذ الكل، إنْ على المستوى الفردي أو المجتمعي، في سباق مع الزمن، فهل استفاد الشرق والغرب، معا، في سابق الأزمان من عامل الوقت لأجل تطوير التواصل، ولا أقول ردم الهوة، بينهما؟

آسف أنَّ الإجابة هي: لا، وبلا شك كلاهما مسؤول. من جهتهم، يردد العرب بين المتوارث من أقوالهم أن «الوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك». اخترت مقولة عربية بافتراض أن العالم العربي الممتد من أقصى شمال أفريقيا إلى أبواب آسيا، بكل تنوع أطيافه العِرقية وتعدد ثقافاته - وليس العرب كعنصر - يشكل مركز الشرق المقصود، وبالتأكيد من دون إغفال لأهمية تركيا وإيران، أو الهند والصين، في تشكيل ما يعرف بالشرق، الذي قيل فيه: «الشرق شرق» ثم إن «الغرب غرب»، وبالنتيجة: لا يلتقيان.

الواقع أن العالم العربي ضيع الكثير من الوقت، على الأقل منذ ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ودخول مرحلة الاستقلال، كي يتواصل مع الغرب بطرق أفضل. أستأذن في أن أواصل الحديث عن العالم العربي من منطلق أن المنتدى ينعقد بدعوة من فضائية عربية ذات موقع دولي متميز على الخارطة الإعلامية، ولأن واحدة من جلساته تحمل العنوان: «الإعلام الغربي ومدى فهمه للقضايا العربية». غير أن إضاعة العرب للوقت لا تجب مسؤولية الغرب إزاء تعطيل النهوض بسبل تطوير التواصل مع شعوب أغلبها خضع لاستعمار قوى القرنين التاسع عشر والعشرين العظمى.

صحيح أن العالم العربي إما غرق في حروب داخلية، حتى داخل البلد الواحد، وهو لا يزال يجري بالنهار والليل أمام أعيننا الآن، أو أنه أهدر - ولا يزال - الكثير من الطاقة الذهنية والمساحة الزمنية في معارك جدال بيزنطية تتعدد جبهاتها وتختلف مسمياتها، لكنها تصب في مجرى شد المجتمعات العربية إلى الوراء، أو في أحسن الأحوال الإبقاء عليها جامدة. صحيح أن هذا الإضرار العربي بالنفس حصل، لكن الطرف الآخر لم يقصّر أيضا في تعطيل جسور التواصل، ورغم وجاهة وجهة النظر التي تقلل من شأن نظرية «المؤامرة» أو تنفيها بالكامل، يبقى من الصعب إغماض العين تماما عن ممارسات عدة للغرب اعتبرت عدوانية أحيانا - كما في التورط في نزاعات عربية/ عربية - أو النظرة الدونية في بعض الحالات - كما في حشر الأنف في الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لبعض المجتمعات العربية - ذلك النوع من الممارسات أدى في بعض الأحيان والحالات إلى تعطيل جسور التواصل أو نسفها تماما.

لكن، أي تواصل هو المعني بعنوان منتدى قناة العربية؟ ليست لديّ إجابة، خصوصا أنني أكتب قبل انعقاد المنتدى والاستماع إلى ما سيُتداول خلاله من نقاش مهم، إنما من البدهي أن ثورة الاتصالات ألغت مساحات شاسعة مما كان يفصل بين الشعوب والثقافات، فعدد السكان في إمبراطوريتي «فيس بوك» أو «تويتر»، أو كليهما معا، يزيد على مليار نسمة ينتمون لهويات وعقائد مختلفة ويتواصلون فيما بينهم من دون جوازات سفر أو تأشيرات دخول. أين المشكل إذن؟ أعتقد أنه في دوائر «الأخ الأكبر» وأجهزته، بمعنى أن المطلوب، في تقديري، تضييق الفجوة بين مفاهيم صانعي القرار ومصالحهم في الشرق، ونظرائهم في الغرب، بغرض الوصول إلى تواصل ممكن على أرضية تخدم مصالح مشتركة وتحترم ثقافات متباينة. وأستأذن منظمي منتدى قناة العربية هنا أن أعتبر أن الغرب ليس فقط أميركا وأوروبا، بل هو يشمل أيضا مجموع العالم الصناعي المتقدم، بما في ذلك اليابان، وروسيا، والصين. نعم، جَسْر الهوة ممكن، أما ردمها كليا فمستحيل، يكفي أن يحدث تطوير التواصل على أساس احترام متبادل، فإذا شعر طرف أن الآخر غير منتبه لخطر في الوقوع في هوة الفروق بادر إلى التنبيه بذوق: من فضلك انتبه للفجوة.

في كل الأحوال، التحية واجبة لجهد قناة العربية الذي يسهم من جهته، بلا شك، في تضييق تلك الفجوة.

[email protected]