لماذا عاد الدستوريون التونسيون بسرعة؟!

TT

مع حصول حزب الحركة الدستورية التونسي في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي على التأشيرة القانونية لممارسة النشاط السياسي، يمكن القول إن عودة الدستوريين أو التجمعيين إلى الحياة السياسية قد أصبحت معطى واقعيا وحقيقة سياسية ظاهرة للجميع. ويذكرنا إعلان حزب الحركة الدستورية عن تركيبة هيئته السياسية في الأيام القليلة الماضية، بحدث الإعلان عن تأسيس حزب نداء تونس في يوليو (تموز) 2012، ذلك أن القاسم المشترك بينهما، اعتماد المشروعية الدستورية والتركيز تحديدا على القاعدة الجماهيرية الدستورية والتجمعية.

وفي الحقيقة يمثل مجرد عودة الدستوريين إلى الحياة السياسية ظاهرة لافتة للانتباه ومثيرة للقراءة والتفكير فيها. وهي عودة، استندت إلى التدرج في الخطاب والتدرج أيضا في التخلص من الخوف. بمعنى أن حزب «نداء تونس» كان منذ تأسيسه حريصا على التمييز بين الدستوريين والتجمعيين باعتبار أن المخيال السياسي للنخبة الحاكمة والمعارضة يحمل تمثلات سلبية إزاء التجمعيين. فكان لا بد من الاحتماء بالمشروعية الدستورية وتوظيف الرأس المال الرمزي الإيجابي للمرجعية الدستورية، وخصوصا أن اسم «التجمع الدستوري الديمقراطي» ارتبط بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، إضافة إلى أن القدر السياسي، إن صح القول، أسهم في إذابة الجليد عندما تقلد الباجي قائد السبسي منصب رئاسة الحكومة وإشراف حكومته الناجح وطنيا ودوليا على انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وتسليم الحكم للأطراف الفائزة، أي أن تلك الأشهر المعدودة من حكم الباجي قائد السبسي قد نشطت الفكرة البورقيبية والدستورية في الذاكرة الجماعية والجمعية للتونسيين. لقد كانت مبادرة السيد الباجي قائد السبسي المتمثلة في تأسيس حركة «نداء تونس» من الذكاء ما مكنه من الانتباه الدقيق إلى مسألة الأبعاد الرمزية في سياق كان ساعتها أكثر حساسية وتأهبا ولا تزال فيه حماسة الثورة متقدة نسبيا، حيث إنه لم يكن من السهل تجاوز الحاجز النفسي الكبير والتجاهر حتى بنية تأسيس حزب، رئيسه محسوب مع الفارق على الحكم البورقيبي ومرحلة بن علي.

أما مع حزب الحركة الدستورية الذي يترأسه الدكتور حامد القروي، فإن الخطاب كان أكثر جرأة وشجاعة، وهو ما يمكن أن نستنتج منه أن حامد القروي استفاد من الطريق الذي مهده للدستوريين والدستوريين التجمعيين حزب نداء تونس. لذلك لم يتوانَ القروي في دعوة الدستوريين إلى رفع رؤوسهم!

طبعا، مسألة استثمار الرصيد الدستوري انتبهت لها أحزاب وشخصيات عدة حتى قبل بروز حزب نداء تونس، مما يعني أن إعادة إحياء الفكرة الدستورية هي نتاج مجهود جماعي لم يخضع إلى التنسيق فيما بينه وأسهمت فيه عدة أحزاب أخرى (الحزب الحر الدستوري التونسي الديمقراطي، والحزب الوطني التونسي، وحزب الإصلاح التونسي) حتى وإن كانت الأكثر استفادة جماهيريا وإعلاميا حزب «نداء تونس»، وحزب «الحركة الدستورية» حاليا، ذلك أن الجهد السياسي والإعلامي والقضائي والحقوقي الذي بذل من أجل رفض منطق العقوبة الجماعية والمحاكمات السياسية والمس بهيبة الدولة والمكاسب الحداثية للمجتمع.. كلها مساهمات فعلت فعلها رغم أنها تبدو في الظاهر متفرقة ومتباعدة ولا خيط يجمع بينها، بدليل أنه لولا هذه الجبهة الرمزية ربما جرى تمرير قانون تحصين الثورة الذي لا تزال بعض الأطراف داخل المجلس الوطني التأسيسي تهدد به خصومها الواقعيين والمفترضين.

ولعل ما جعل ما وصفناه بالعودة السريعة للدستوريين تلقى ترحيبا معلنا وصامتا في تزايد لدى فئات عريضة من التونسيين، وأيضا في المقابل تلقى رفضا نبرته في انخفاض مستمر، أن الشعب التونسي اليوم بات متعطشا أكثر فأكثر إلى شخصيات ينطبق عليها أكثر من غيرها وصف «رجال الدولة» وذات كاريزما وتجربة، وهو ما يفسر حسب اعتقادنا التفاعل الإيجابي مع أي حضور إعلامي لشخصية الباجي قائد السبسي، وأيضا الدكتور حامد القروي الذي نجح في تسجيل حضور إعلامي قوي في الأيام الأخيرة مما يفيد بأنه على المستوى الاتصالي، هناك نجاح تفتقد إليه غالبية مكونات المشهد السياسي الراهن.

لنأتِ الآن إلى سؤال نعتقد أنه لا بد من طرحه: إذا كانت عودة الدستوريين متوقعة باعتبار أنهم يمثلون حقيقة تاريخية وثقافية تستند إلى مشروعية قوية هي مشروعية النضال ضد الاستعمار وتحقيق الاستقلال وبناء الدولة الوطنية الحديثة، فإن غير المتوقع صراحة، أن تكون هذه العودة سريعة!

للإجابة عن هذا السؤال سأستحضر إجابة قديمة في تاريخها كان قد قدمها السيد راشد الغنوشي في أحد حواراته الصحافية، حيث قال إن ظهور المعارضة الإسلامية في تونس خلال السبعينات من القرن الماضي، إنما هو نتاج الاستفادة مما وصفه بالرصيد السلبي للدولة الوطنية إبان حكم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة.

يبدو لي أن هذه الإجابة يمكن اقتباس المنطق الذي تقوم عليه وتطبيقه في الإجابة عن السؤال الذي طرحناه: إن الدستوريين والتجمعيين عادوا سريعا لأنهم استفادوا من الرصيد السلبي للترويكا الحاكمة في تونس في الوقت الحالي.

نعم، فالأمر لا يتعدى الاستثمار في الأرصدة السلبية.

هكذا نفهم الإطار العام لسبب العودة السريعة للدستوريين أو للدستوريين التجمعيين، علما بأن الفهم الأكمل يتحقق بتفكيك الرصيد السلبي للترويكا الحاكمة.