صفقة وليس اتفاقا!

TT

بحسب من يحلل ويناقش ما جرى بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جهة، وإيران من جهة أخرى، من الممكن فهم ما حصل، فهناك من يسمي ما جرى «اتفاقا» واضح الملامح خاصا ببرنامج إيران النووي ومخاوف وقلق المجتمع الدولي منه ومن تطورات وتداعيات هذا البرنامج، وخصوصا في ظل التجاوزات الهائلة للسياسة الإيرانية وتدخلاتها المستمرة في شؤون الغير السياسية وتصديرها لثورتها منذ ثلاثة عقود، وإثارة النعرات الطائفية عبر وسائل مختلفة وأساليب مباشرة وغير مباشرة، وهناك من يصف ما حصل بأنه موضوع أعمق وأوسع، وأنه يجب وصفه بأنه «صفقة» فيها أدوار تمارس وتنازلات تقدم وتوافقات على خطط وأهداف ترضي الأطراف المعنية جميعا.

وشخصيا، أميل إلى النظرة الثانية للموضوع، لأنني لست مقتنعا أبدا بأن ماراثون جنيف في مباحثات اللحظة الأخيرة، كان هو الفيصل في هذا الأمر والاتفاق، ولكن «الصفقة» كانت تطبخ وتعد على نار هادئة جدا وبمقادير استثنائية، ولعل «الود» الإيراني ظهر دوره جليا وعلنا مع المحافظين الجدد في حقبة بوش الابن خلال فترة غزو أميركا للعراق، والتنسيق التام مع إيران مباشرة وعبر وكلائها بالعراق، فلقد كان هناك من يروج بقوة للدور الإيراني «المطلوب» في المنطقة وأنها هي الوحيدة القوية والقادرة على إلجام وإحداث «توازن» مع قوى الإرهاب والتطرف. وكان من أهم مروجي ذلك الأمر كاتب أميركي شاب من أصول إيرانية وباحث في العلوم السياسية في مجلس العلاقات الخارجية، وهو أحد أهم مراكز البحث وصناعة القرار، اسمه والي نصر، وكان له كتاب مهم بعنوان «عودة نهضة الشيعة»، وانتشر هذا الكتاب في أوساط الإدارة الأميركية، وقرأه الرئيس بوش نفسه، وهو الذي كان بالكاد يقرأ قائمة طعام بمطعم في أحسن الأحوال!

واستمر «الود» الأميركي - الإيراني قائما على الرغم من كل «الزعيق» السياسي والضوضاء المصاحبة له، حيث كان في واقع الأمر ما هو إلا وسيلة «تقوية» وتمكين هائلين لنظام الملالي في إيران، لأنه استطاع أن يروج للشعب أنه مستهدف وأنه مقصود وأنه متآمر عليه.. إلى آخر هذا الهراء السياسي المطلوب لتحقيق المآرب، وقد كان. واللافت أن هذه الفكرة، أي فكرة التقارب الأميركي - الإيراني، أخذت بعدا «أكاديميا» متصاعدا في حقبة الرئيس باراك أوباما، حيث صدر كتاب لافت جدا اسمه «إعادة البرمجة»، بقلم الباحث المعروف ستيفن كينزر، يطالب فيه حكومته الأميركية بالاعتماد في منطقة الشرق الأوسط على إيران وتركيا فقط والاستغناء عن الأطراف الأخرى بما فيها إسرائيل، باعتبار أن إيران وتركيا هما الدولتان الوحيدتان القادرتان على التأثير.

وفي سنة 2010 كانت انطلاقة «الصفقة» الأميركية - الإيرانية، واختيرت مسقط في عمان لتكون مقر الحوارات بين الطرفين على مستوى موظفي الخارجية ثم وكلاء الوزارة، وكان فيها دوما حضور مؤثر من جيفري فيلتمان، الدبلوماسي الأميركي المخضرم. والصفقة تتضمن وجودا قويا ومميزا لإيران في كل سياسات المنطقة، وإبقاء النظام الموالي لها في سوريا مع تغير شكلي بتغيير الأسد، وضمان حدود إسرائيل (وهي مسألة ينفذها بدقة حزب الله الإيراني منذ 2006). كل ذلك دلالة أخرى وجديدة على أن الشهية الأميركية بخصوص منطقة الشرق الأوسط قد تغيرت ولم تعد تمثل نفس الأهمية.

لكن هناك أطرافا أخرى في أوروبا وتركيا وروسيا لها اهتمام هائل وعظيم برفع الحظر المفروض على نفط وغاز إيران، وخصوصا أوروبا وتركيا، نظرا لحاجتهم الماسة إلى غاز إيران لقربها منهم وسهولة تصديره لهم جميعا. إنه ليس اتفاقا جرى في جنيف في ساعات أخيرة، ولكنه «صفقة» متكاملة الصفات وذات جذور وليست بالجديدة. ويبقى السؤال القائم والأهم: هل بالإمكان تحقيق كافة بنود هذا الاتفاق بنجاح حقيقي وتنفيذ دقيق؟ لأن هذا الاتفاق/ الصفقة لا يلقى قبول ولا ارتياح أهل المنطقة نفسها.