أزمة الديمقراطية في البيرو.. تحالفات العساكر والفساد الإداري.. مقاتل في طريق الديمقراطية

TT

تبقى ادارة النظام الديمقراطي وتوجيه سلطاته السياسية والاقتصادية من أبرز الأمراض التي تواجه الديمقراطيات في العالم الثالث، لأسباب فكرية وسياسية عديدة أبرزها: ان الميراث الثقافي الديمقراطي الليبرالي أصبح بفعل التطور الحضاري خاضعاً لمرجعية المركز الأول في الولايات المتحدة الأميركية، وأعيد بعثه من تجربتها المتقدمة وما عكسته ظروفها الاقتصادية العالية المستوى في ميادين العلم وتقنياته، والمعرفة بفنون السوق. وقد وجد هذا الانبعاث تجاوباً سهلاً لدى المجتمعات الأوروبية التي خاضت من خلال ثورتها النهضوية عبر قرنين من الزمن كفاحاً هائلاً للوصول الى مراتب التلقيح والتفاعل مع ذلك المستوى المتقدم للمركز، في حين وقعت شعوب وبلدان العالم الثالث خاصة في أميركا اللاتينية وبعض دول آسيا في أزمة استيعاب الثقافة الديمقراطية الليبرالية في جانبها السوقي، لأن هم الرأسمالية الجديدة كان الأخذ وليس العطاء، وإهمال الجانب القيمي الاجتماعي والتاريخي، وهو ما صدم تلك الشعوب ونخبها السياسية، ووضعها في حالة من التشتت والضياع، معتمدة على ممارسة التجربة والخطأ، من دون الاستعانة بموروثاتها الثقافية والاجتماعية المحرمة في معايير الرأسمالية الجديدة التي تستند اليها الديمقراطيات الناشئة، واصبح عليها أن تقدم تضحيات جسيمة بسبب الهزات السياسية والاقتصادية التي تتعرض لها مثل هذه التجارب وسط تأنيب قاس من مراكز الرأسمالية «بعدم قدرتها على تحقيق النمو المطلوب الذي يؤهلها للتلاقي مع محيط السوق العالمي الجديد». لقد أحدث انشداد النخب السلطوية الجديدة الى نوازعها الاجتماعية، وافرازات التحول الديمقراطي التي فتحت النوافذ الواسعة أمام تلك النوازع للسيطرة على رغبات تلك النخب الممزوجة بحالات الجذب والتشجيع من الفئات الطفيلية والمصلحية الى وقوع العديد من كوارث الانحراف عن طريق مصالح الشعوب، وتحولت تلك التجارب في بعض المواقع العالمية إلى هم جديد مركب، ومأزق خانق بين الالتزام الديمقراطي وعدم الرغبة في خروج الشعوب عنه، وبين الأزمات الاقتصادية المتصاعدة التي تهدد النظم في تلك البلدان بالانهيار، واستيطان الأزمات الاجتماعية في الفقر والمرض والتخلف.. ولعل التجارب الديمقراطية في أميركا اللاتينية تشكل مقطعاً مفزعاً من صورة «الديمقراطيات الهشة».

فما يحدث في عموم تلك البلدان من ازمات في ادارة السلطة الديمقراطية هو في أحد وجوهه نتاج الاخفاق في الحل الاقتصادي عبر العلاقة بين الديمقراطية والسوق الحر، وعدم القدرة على التخلص من غول الافساد الاداري المرافق لجوقات الاحزاب الديمقراطية على اختلاف الوانها. وكذلك عدم القدرة على ادارة جموح العساكر نحو السلطة السياسية، وهم الذين حوروا في تراثهم لعبتهم للوصول الى السلطة في عموم بلدان العالم الثالث من مسار «الانقلابات العسكرية» التي لم تعد بضاعتها مقبولة، الى مسار اللعبة الديمقراطية، والتمترس خلف مؤثرات القوة العسكرية في الشارع السياسي الداخلي، والتهديد بتهديم القوائم والجدران الضعيفة للنظم الديمقراطية، والعودة الى السلطات الفردية العسكرية بكل ما تحمله من ذكريات مؤلمة لدى الشعوب.. وأصبح على الحاكم الديمقراطي أن يضع في حساباته موقعا خفيا للجنرالات، وعقد صفقة المشاركة لكي يؤمنوا لهذا الحاكم من خلالها قدراً مهماً من الأمن السياسي السلطوي، فيما يديرون شؤونهم المصلحية مع قوى النفوذ التجارية بمختلف ميادينها، ويظلون محافظين على جاهزيتهم في الظهور على المسرح حين اشتداد الازمات السياسية.. وهذا ما حدث في التجربة الديمقراطية في «البيرو» والتي تتميز عن بلدان أميركا اللاتينية الأخرى بكون شعبها الأكثر مصلحة في الديمقراطية التي تسعى الى تخليصه من الفقر، ومن ثم الأمن الاجتماعي. ولهذا وجدنا ان هذا البلد من أقدم تلك البلدان عهداً في قبول العهد الديمقراطي الذي ابتدأ منذ عام 1931، لكنه ما زال ـ بسبب ضعف موارده ـ الأكثر تعرضا للهزات الاقتصادية، ولعمق مشكلاته الاجتماعية كالفقر والتخلف، وكونه منبتاً للمخدرات، أصبحت مسألة السلطة السياسية بادارة ديمقراطية غير قادرة على تقديم المنجز الشعبي المباشر دون أن تمكنها من انجاز الأمن الاجتماعي، وخاصة حل أزمة الجماعات المسلحة كمنظمة «الدرب المنير» ذات التوجهات اليسارية، والتي وضعت لقوة العساكر دوراً مؤثراً في تحقيق الأمن الوطني الداخلي، وبذلك تحاول باستمرار استثمار هذه المسؤولية للعب دور سياسي ضاغط على الحاكم.

ولعل وصول الرئيس البيرواني الحالي، فوجي موري، ذي الأصل الياباني الى السلطة عام 1990عبر اللعبة الانتخابية من خارج سرب الأحزاب التقليدية البيروانية كان نتيجة الخيبة التي أصابت المجتمع البيرواني ومعظم مجتمعات أميركا اللاتينية من تلك الاحزاب في عدم تحقيقها الانجاز الاقتصادي والاجتماعي... وكانت تلك علامة مثيرة لاحتمال انتقال عدواها الى بقية بلدان تلك القارة، ووضع مصالح الولايات المتحدة على حافة الهاوية، خاصة انها اطمأنت عليها بعد انتهاء الثنائية الدولية. ومما زاد من هواجس القلق ما أقدم عليه فوجي موري عام 1992 في ما سمي بالانقلاب الديمقراطي حينما حل البرلمان، ووضع السلطات التشريعية والتنفيذية بيده، معتمداً على ذراعه العسكري (القوات المسلحة) وأجهزتها الأمنية، وقد كان مستشاره الاستخباري «فلاديمير مونتسينوس» رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية SIN هو القوة المساندة لتحقيق هذا الهدف بما يمتاز به من امكانيات في العلاقات السياسية المحلية التي توطدت بعد رئاسته لهذا الجهاز بعد فوز فوجي موري بالانتخابات عام 1990، وهو الذي فجر الأزمة السياسية الحالية التي أعلنت في العاصمة لومي بتاريخ 2000/9/16 بعدما اكتشف بالتسجيل الصوري عن تقديمه رشوة مالية لعضو البرلمان البيرواني «كوري رودريغز، في الحملة الانتخابية لصالح فوجي موري الذي اتخذ قراره بالتخلي عن مسؤولياته في الرئاسة، التي جددت له أوائل هذا العام بعد فوزه لثلاث دورات انتخابية، ودعوته لإجراء انتخابات مبكرة في الثامن والعشرين من يوليو العام المقبل.

وفيما رحبت الإدارة الأميركية بهذا الاجراء ووصفته «بالموقف الحيوي والايجابي» فقد أشارت بعض المعلومات الصحافية المحلية البيروانية الى سوابق رجل الاستخبارات السيئة، والى احتمال تجنيده من قبل المخابرات الاميركية CIA عام 1970. وقد نفت المصادر الرسمية الأميركية تلك المعلومات، وحددت تلك العلاقة التنسيقية ضمن برنامج الولايات المتحدة في مكافحة المخدرات بعد عام 90، وأن الرئيس الحالي هو الذي منحه الثقة بتنصيبه على رأس جهاز المخابرات العسكرية. فيما استثمرت المعارضة السياسية هذا المناخ لتعلن على لسان «توليدو» رئيس حزب Peru Posible مطالباً بقيام حكومة انتقالية تحضر لانتخابات خلال مدة ستة أشهر.. وهي فترة لم يقبلها البرلمانيون الذين أعلنوا عدم قدرتهم على تحقيق المتطلبات الانتخابية خلالها، فيما سارعت القيادات العسكرية للدفاع عن رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، وطالبت بتحقيق قضائي عادل.

ويبدو ان اعلان فوجي موري كان جزءا من اللعبة السياسية لتنظيف يديه من قذارة الصفقات الخفية التي أصبحت صفة ملاصقة بعمليات الترشيح في الدول المتقدمة والعريقة في الديمقراطية وليس الدول النامية فحسب، خاصة تلك التي تفوح من مناخاتها السياسية رائحة المخدرات والمال.. وقد جاء هذا الإعلان بعد اجتماعه بالقيادات العسكرية بتاريخ 2000/9/20.

لقد أشرنا في مقالات سابقة الى أن تجربتي فوجي موري في البيرو و هوجو شافيز في فنزويلا، لن تمرا بسلام في تلك القارة التي لا بد أن تبقى الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، وليس من السهل السماح للتجارب الديمقراطية التي يقودها الجيل الثاني، والتي تحاول أن تتلمس الطريق الجديد للديمقراطية الليبرالية والانفتاح المحسوب على عولمة السوق الحر، أن تكون مطلقة اليد في اختياراته هذه، اضافة الى حاجتها الى قاعدة قوية من الاقتصاد المتين المعتمد على الثروات الوطنية، وهو عنصر مفقود في تجربة «البيرو» في ما يتوفر لدى فنزويلا.. وسيظل خطرا الفساد الاداري، وطوق العساكر، من أفتك الأمراض التي تواجه الجيل الديمقراطي الجديد في أميركا اللاتينية، وكذلك في الديمقراطيات الناشئة في بلدان العالم الثالث، ومن بينها بلداننا العربية.

وان الحاكم الديمقراطي في هذا العالم سيظل مضغوطاً بين كماشتي مجاراته للقوة الرأسمالية، وادارة مركزها السياسي والاقتصادي، وبين مظاهر الفساد في منظومات النظام الاقتصادي والاداري المحلية، وفقدان الادارة لقوة العساكر التي تعيق تلبيته للحاجات الانسانية الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، والانتقال الى عالم متمدن فعال في دائرة الحضارة الانسانية الجديدة.

[email protected]