رأيت في ما يرى النائم

TT

ان لم ينفع الواقع تعلق بحبال الاحلام ولا نعنيها بالمعنى الكبير والجليل هنا انما بمعنى المنام.

وقراءة كتب تفسير الاحلام لمن جربها متعة مختلفة تتيح لك ان تحزن وتفرح وتشرد، أما ان تتفاءل أو تتشاءم وتصدق أولا تصدق، فتلك قصة اخرى يحسمها العقل، وحجم ما أوتيت منه، وقدرتك على استثمار نصيبك من ذلك العطاء.

وذات دهر حين كانت الاحلام مختلطة بالمنامات وكلاهما مهرب من واقع مرير قرأت بشغف كتاب تفسير الاحلام الكبير لابن سيرين، وكنت اعود اليه للاستئناس كلما رأيت مناماً أو كابوساً، ثم توقفت الكوابيس، فتراجعت مكانة الكتاب، لكنه ظل في مكان مميز من المكتبة للاستشارة والاستئناس، واحترام الصحبة القديمة، ولعل له ذات الموقع عند كل من يحب التراث، ومخطوطاته وكتبه.

وأجمل العبارات التراثية وقعاً حين يتعلق الأمر بالاحلام عبارة «رأيت في ما يرى النائم». فهي مفتاح الحكاية التي تحيطك علماً بالخطوة التالية، فلا بد ان تأخذك الى مفسر أحلام يخضعك لمزاجه، ويفسر منامك حسب ظروفه النفسية، فإن كان هادئاً رائق البال أعطاك احسن ما عنده، وان كان نكداً متبرماً، فالويل لك مما رأيت لأنه يستطيع تحويل كل ما تراه الى كوارث.

والحقيقة ان عملية تفسير الاحلام مثل عملية قراءة الفنجان تتيح التلاعب بأعصاب الحالم وشارب القهوة، وفرق مفسر الحلم عن المنجم انك تعطي الأول المادة التي يشتغل عليها، اما الثاني فيظل خياله أخصب، لأنه هو الذي يصنع القصة المستقبلية من أولها الى آخرها من خلال تعرجات التفل الخشن على السطح الناعم للفنجان.

ومن يظن ان مفسر الاحلام يشتغل بالمطلق يخطئ، فتفسير الحلم قائم على نظرية الاحتمالات منذ ابن سيرين الى فرويد، يعني على طريقة (إما ـ أو) فالبحر في تأويل ابن سيرين ـ مثلاً ـ سلطان مهيب مرة، ورمز من رموز الدنيا واهوالها مرة ثانية، وفي الثانية يصبح البحر من أدلة الفتنة الهائجة المضطربة ويقرن بالشهوة، وفي تفسير رابع يصبح البحر عند ابن سيرين مرادفاً لجهنم، ويصبح موجه شدة وعذاباً.

ومع كل هذه التفسيرات للبحر يعطي ابن سيرين للبحيرة تفسيراً واحداً، فمن حلم انه في بحيرة، فهذا يعني انه سيتعرف على امرأة ذات يسار تحب المباشرة، فالمرأة ـ والكلام لابن سيرين ـ كالبحيرة تقتل كل من يقع فيها.

وربما كان هذا القول يدل على الحالة العقلية للمفسر اكثر مما يدل على نفسية صاحب المنام، فهو محكوم بلغة وثقافة لا بد ان تظهر في تفسيراته، فما دامت البحيرة امرأة، فإن رؤية القنوات المائية في الحلم تعني احتمال ان يرتكب الرجل الفاحشة، فالقناة ايضاً امرأة ولكنها ليست كالبحيرة ذات يسار.

والغريب ان ابن سيرين يأتي الى الساقية، فتختلف تفسيراته ويجعلها مجرى للرزق دون ان ينسى رمزها الجنسي، فمن رأى الساقية تجري الى بستانه يتزوج ان كان عازباً، أو يشتري جارية يتمتع بها اضافة الى ما عنده ان كان متزوجاً أو معدداً.

ان الإلحاح على التفسيرات الجنسية عند ابن سيرين يدفع الى التفكير بالتشجيع على دراسة مقارنة بين فرويد وذلك العالم العربي، فقد نكتشف بنتيجتها ان قواعد العقل الباطن وطبقاته سبق توضيحها قبل فرويد بعشرة قرون، وان ربط معظم تجليات السلوك بالفعل الجنسي اختراع عربي حار وأصيل يليق بنا اكثر مما يليق بهؤلاء النمساويين الباردين.