تحرير اللاهوت والفلسفة من الدوغمائية ضروري لإقامة خوار بينهما

TT

يعتبر بول ريكور الآن شيخ فلاسفة فرنسا المعاصرين. فقد تجاوز الرابعة والثمانين من العمر ولا يزال ناشطا وحاضرا في الساحة الفكرية الفرنسية والاوروبية والدولية. وبعد ان اهمله الفرنسيون زمنا طويلا بسبب انشغالهم بزعماء البنيوية كليفي ستروس، وميشيل فوكو، ودريدا... الخ، عادوا الى الاهتمام به من جديد. وهذه هي طبيعة الحياة الفلسفية وكل حياة مد وجزر، صعود وهبوط. فقد صدرت في الآونة الاخيرة عدة كتب له أو عنه. واجريت معه المقابلات المطولة، وكرست له محاور المجلات المتخصصة، لكأن الفرنسيين احسوا باليتم بعد زوال العمالقة او صمتهم، فها هم يلجأون اليه ويلوذون به. فمن هو بول ريكور هذا؟ وماهي خصوصيته؟ ولد بول ريكور عام 1913 في احدى مدن الاقاليم بفرنسا وفقد امه مباشرة تقريبا بعد ولادته. ثم جاء دور والده الذي سقط في الحرب العالمية الاولى ضد الالمان عام 1915 أي عندما كان عمره سنتين فقط. وهكذا رباه جده وجدته واخته الكبيرة وعمته. واحس بالفراغ منذ البداية، أو بما يدعوه: الغياب. فقد فتح عينيه على الغياب لا على الحضور. وعلى الرغم من انه كان طالبا مشاغبا اثناء دراسته الاولى إلا انه كان شغوفا بالمطالعة. فقد انكبّ على دراسة الآداب الكبرى: كأدب رابليه ومونيتني وباسكال. ثم اكتشف بنوع من الحماسة روايات فلوبير وستندال وتولستوي، ولكن اكتشافه الاكبر الذي اثر عليه فلسفيا في ما بعد كان ديستويفسكي. وقال في ما بعد: ان رواية «الجريمة والعقاب» قد حسمت تفكيري الفلسفي حول مسألة الشر في العالم. واول صدام مباشر له مع الشر ـ او مع الظلم والقهر ـ كان عام 1923 ـ 1924، اي وهو لا يتجاوز احد عشر عاما. وكان ذلك اثناء الفضيحة الشهيرة التي حصلت لعاملين ايطاليين مهاجرين الى اميركا. فقد اتهما بجريمة لم يرتكباها وحكم عليهما بالاعدام عام 1927. وكل ذلك من أجل ارضاء الرأي العام الاميركي الذي كان مهيجاً آنذاك ضد الاجانب ومفعما بالتعصب القومي. في الواقع انهما اتخذا ككبش فداء ليس إلا. يقول ريكور «كنت في حالة من التذمر الاقصى. فهذا الظلم الفادح خلع بعدا اجتماعيا وسياسيا على شعوري بوجود الشر في العالم. واستبطنت ذلك على سبيل الاحساس بالذنب. شعرت وكأني مسؤول عما جرى..». هكذا نجد ان بول ريكور فتح عينيه على العامل التراجيدي في التاريخ منذ البداية. فقد عانى التراجيديا في حياته الشخصية كما في الحياة العامة الخارجية. واكتشف عندئذ ان الشر موجود غصبا عنا أو خارج ارادتنا. انه قضية موضوعية بكل بساطة. لهذا السبب كرس له احد كتبه الاساسية في ما بعد: «رمزانية الشر». ثم جاء القرن العشرون بكل فجائعه وحروبه الاستعمارية وغير الاستعمارية وجرائمه لكي يزيد من احساس ريكور بأهمية الشر في العالم أو في التاريخ. فالتاريخ ليس كله فرحا أو انجازات ايجابية أو تقدما. وانما هو ايضا تراجيدي، مأساوي، مرعب وينبغي ان نأخذه من كل جوانبه أو نراه بكلا بعديه، ولكن الشر الذي لاقاه بول ريكور في حياته الشخصية كما العامة لم يجعله ييأس من الحياة أو يكرهها. ولعل ايمانه الديني قد ساعده على مواجهة هذه المحن والتغلب عليها في نهاية المطاف. فهو يعتقد ان الخير سابق على الشر، وان الخالق خير بطبيعته، وان وجود الشر أو الظلم في العالم لا ينبغي ان يمنعنا من الانخراط في العالم ومحاولة تغيير الامور نحو الافضل. فهذا امر ممكن على عكس ما يدعيه العدميون والفوضويون والعبثيون. واذن فلا ينبغي ان نستسلم للشر بحجة انه كان دائما موجودا وسيظل موجودا، وانما ينبغي ان نحاول تقليصه في هذا العالم أو التقليل منه.

ان خصوصية بول ريكور تكمن هنا بالضبط، فهو احد الفلاسفة القلائل الذين يعلنون عن ايمانهم دون أي خجل أو خوف. نقول ذلك ونحن نعلم ان التيار الوضعي أو الالحادي كان قد سيطر على فلاسفة اوروبا منذ القرن التاسع عشر. ولهذا السبب اتهمه سارتر بأنه «خوري يتفلسف!»، ولكن هذا التهكم لم يمنعه من مواصلة طريقه ومن الجمع بين العلم/ والايمان، أو الفلسفة/ والدين باستمرار. وقد كان استاذه الاول في هذا الاتجاه هو غابرييل مارسيل، زعيم الاتجاه المؤمن في الوجودية الفرنسية، وذلك على عكس غريمه سارتر الذي كان يتزعم الاتجاه الالحادي في الفلسفة الوجودية. ان لدينا ميلا، نحن المثقفين العرب، الى اعتبار كل الفلسفة الاوروبية المعاصرة إلحادية، بل اننا لا نستطيع ان نفهم كيف يمكن للمرء ان يكون فيلسوفا ومؤمنا في الوقت ذاته! ينبغي ان اقول ان هذه هي صورة مشوهة ـ او غير تاريخية ـ عن الحداثة الاوروبية.

فالاتجاه الايماني لم يمت في اي يوم من الايام. اقول ذلك على الرغم من تقلص اهميته ومن حصول طلاق بين العلم/ والدين منذ القرن التاسع عشر. فهناك فلاسفة مؤمنون كبار ليس اقلهم كارل ياسبرز (احدى مرجعيات ريكور) وغابرييل مارسيل، وبيرغسون... الخ. كان غابرييل مارسيل قد فتح صالونا في بيته من اجل الفلسفة والتفلسف. وكان يحضره كل يوم جمعة نخبة من طلاب الفلسفة الجامعيين وبعض الشخصيات الاكبر سنا. وقد حضر سارتر بعض جلساته وكذلك الكاتب ميشيل بوتور. وعندما تعرف عليه بول ريكور سُحِر بشخصية مارسيل وطريقته في المساءلة الفلسفية على غرار سقراط. فالفلسفة الجامعية كانت آنذاك مغموسة بالتجريد والتنظير البعيد عن الواقع ومشاكله العملية المحسوسة. واما غابرييل مارسيل فكان يمنع التجريد في حلقاته ويمنع الامتثالية الفلسفية والاستشهاد دائما بكانط أو ديكارت. كان يقول للحاضرين: تفلسفوا انطلاقا من تجربتكم الشخصية، من همومكم المحسوسة، وليس مما اخذتموه من بطون الكتب.. ثم تعرف ريكو عندئذ على الفلسفة الظاهراتية أو الفينومنيولوجية: أي التي تنطلق من مراقبة الاشياء والظواهر ذاتها، وليس من التجريد والكلام الفارغ. من هنا نشأت فلسفة الوجود أو الفلسفة الوجودية: أي الفلسفة التي تنطلق من مشاكل الوجود الواقعية، ولا تهوم في متاهات الفراغ والتجريد. ولهذا السبب انتصر سارتر مثلا في الخمسينات على الفلسفة الجامعية السائدة في السوربون، بل واصبح «على الموضة»، وذلك قبل ان تجيء «الموضة البنيوية» وتزيحه عن عرش الفلسفة.

ريكور وماركس ثم انتسب ريكور في ما بعد الى تيار «الشخصانية المسيحية» الذي كان يقوده ايمانويل مونييه، ولكن الفرق الوحيد بينه وبين الفلاسفة المؤمنين الآخرين ـ أو القسم الاكبر منهم ـ هو ان ريكور كان يساريا متحمسا. فهل يعود ذلك الى اصوله البروتستانتية؟ ام الى احساسه الحاد بوجود الشر والظلم في العالم؟ ربما الى الاثنين معا. يضاف الى ذلك تأثره منذ البداية بفكر ماركس. فإيمانه الديني لم يمنعه من الانفتاح على الماركسية، ولكن ليس اي ماركسية. فمنذ عام 1938 كتب ريكور مقالة بعنوان «ضرورة ماركس» وفيها يقيم تميزا بين الماركسية الدوغمائية/ والماركسية النقدية. فالاولى تعتقد بأنها قد توصلت الى المفتاح النهائي والاخير لتفسير العالم، والثانية تعترف بوجود فكر آخر غير ماركسي وبشرعية هذا الوجود. ويرى ريكور ان الماركسية النقدية تحررنا جذريا من الفلسفة المثالية. انها تمنع تأليه الانسان وتنفتح على منظور نسبي كان ماركس قد اغلقه للأسف بسبب تركيزه الشديد على قوى الانتاج فقط أو على البنية التحتية. ان ضعف ماركس يكمن في تهميشه لكل العوامل الأخرى ماعدا العامل المادي أو الاقتصادي أو اعتبارها تابعة بشكل ميكانيكي بحت لهذا العامل، ولكن ريكور يجد اشياء ايجابية حتى في نقد ماركس للدين. فالمسيحية كانت قد اصبحت كاريكاتورية وتشوهت بمرور الزمن وانحرفت عن المبادئ الاصلية أو الجوهرية للإنجيل. وبالتالي فنقد ماركس للدين على الرغم من راديكاليته كان محررا أو تحريريا. فماركس انقذنا من الفلسفة الروحانية المثالية التي تعتبر الانسان فوق كل مشروطية مادية أو اقتصادية. فهذه نظرة مثالية تجريدية لا تصمد امام الامتحان. ان هذه الروحانية المثالية قد انحرفت نحو نوع من السعادة الوهمية التي تعزي الانسان عن فقره وشروطه المادية المزرية، بل وتجعله يقبل بها ويستكين إليها. وهكذا تحولت الى نوع من «أفيون الشعوب» بحسب اصطلاح ماركس شخصيا.

ان بول ريكور المؤمن لم يتردد لحظة واحدة في التموضع داخل هذا المنظور الماركسي النقدي، بل وراح يعتبر ان الكنيسة المسيحية هي سبب الحرب الاهلية في اسبانيا بكل شرورها وفظائعها. وقال ان الاصولية المسيحية كانت دائما في جهة النظام المحافظ والقمعي وخصوصا في ظل الانظمة التي تكون فيها المسيحية هي الدين الرسمي للدولة، ولكن ريكور يعيد دوغمائية ماركس الى دوغمائية استاذة الاكبر: هيغل. فهيغل هو الذي اغلق النظام الفلسفي وقال ان كل ما هو واقعي عقلاني واعلن عن امكانية التوصل الى المعرفة المطلقة والنهائىة. ولكننا نعلم ان المعرفة البشرية لا يمكن ان تكون مطلقة أو مغلقة، بل هي دائما مفتوحة على الكشف المتجدد. ولذا دعا ريكور الى محاربة الماركسية الدوغمائية باسم الماركسية النقدية.

ريكور وسارتر كان النجم الطالع في الساحة الثقافية الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية هو جان بول سارتر. وعندما القى محاضرته الشهيرة عن «الوجودية بصفتها نزعة انسانية» كانت القاعة تغص بالبشر وكان الواقفون اكثر من القاعدين. هكذا ولدت الوجودية بصفتها فلسفة تحريرية ونمط حياة، بل وحتى موضة مزدهرة تهيمن على مقاهي السان جيرمان دي بري. وقد نجحت وسيطرت لأن الناس كانوا ينتظرونها، لأنها كانت تلبي حاجة في وقتها. في الواقع ان نظرة سارتر للحرية كانت تتناغم أو تنسجم مع جو التحرير والبهجة الذي كان سائدا آنذاك. اي تحرير فرنسا من الالمان بعد طول احتلال وذل وقهر. وميزة سارتر هو انه قدم مزيجا من الفلسفة الظاهراتية لهوسيرل والفلسفة الانطولوجية لهيدغر وخرج من كل ذلك بكتابه الشهير «الوجود والعدم». كان سارتر يرى ان الفلسفة الوجودية تنقسم الى فرعين اساسيين: فرع الوجودية المسيحية الممثلة بغابرييل مارسيل وكارل ياسبرز، وفرع الوجودية الملحدة المتمثلة بهيدغر وسارتر نفسه وبعض الفلاسفة الفرنسيين الآخرين، ولكن اعلان سارتر في محاضرته الشهيرة تلك عن «عدم وجود الله» ازعج بول ريكور ومنعه من الاقتراب منه. فإلحادية سارتر النضالية كانت تصدمه لأنها مسلَّمة فلسفية غير قابلة للنقاش.

هذا في حين ان ريكور يعتبر هذه المسألة قابلة للنقاش ولا ينبغي حسمها بمثل هذه السهولة والسرعة. يضاف إلى ذلك ان ريكور كان ضد العدمية السارترية التي تنتهي إلى القول: بما اننا سنموت في نهاية المطاف ونندثر فان كل شيء يساوي كل شيء، ولا معنى لأي شيء. فالعدم هو البداية والنهاية، وهو الحقيقة الوحيدة التي لا حقيقة بعدها. يضاف إلى ذلك ايضا ان فردانية سارتر المبالغ فيها التي عبر عنها في كلمته الشهيرة «الجحيم هو الآخرون» كانت تزعج ريكور الذي يحب التواصل الانساني ولا يعترف بأي معنى للحياة الا من خلال التواصل مع الآخرين. لهذه الاسباب مجتمعة لم يصبح بول ريكور سارترياً او وجوديا على الرغم من اعجابه بموهبة سارتر التي تتجلى في عدة مجالات: كالمسرح، والرواية، والنقد الادبي، والفلسفة، إلخ.. كان السؤال الاساسي الذي يطرحه بول ريكور على نفسه في تلك الفترة هو التالي: كيف يمكن ان نقيم حواراً بين الفلسفة الوجودية والايمان المسيحي؟ وللاجابة عن هذا السؤال راح ريكور يقيم تمييزاً اساسيا بين الاديان/ والدين. لكن الناس يخلطون بينهما عادة، وهذا الخلط هو سبب المشكلة وسوء التفاهم التاريخي بين الفلسفة والايمان. فالايمان ليس الدين بحسب المنظور الذي ينطلق منه ريكور، او قل انه لا ينحصر بدين محدد بعينه، وانما هو يخترق كل الاديان ويتجاوزها. يضاف إلى ذلك ان رجال الدين كثيراً ما قمعوا الايمان والفكر باسم الدين! ويقول ريكور ان تاريخ الفلسفة كله ليس إلا عبارة عن مواجهة مستمرة مع المؤسسة الاصولية التي تكفّر العلماء والفلاسفة، بل وتحرقهم او تقتلهم. وضرب على ذلك مثلا ما حصل لغاليليو، وسبينوزا، وسيرفيه. فالأول ادانه الكاثوليك، والثاني كفرّه اليهود ونبذوه، والثالث حرقه البروتستانت... وهذه النزعة القمعية الموجودة لدى الاصوليين اليهود والمسيحيين هي التي تحداها الفكر الفلسفي المفعم بحب الحرية.

ولا يمكن ان نفهم تاريخ الفكر كله اذا لم نأخذ في الاعتبار هذه النقطة.

فهو كله صراع بين الفكر الفلسفي/ والفكر الديني الدوغمائي المتحجر والمتكلس.

لكن الفلسفة ايضا قد تتحول إلى نظام مغلق ودوغمائي اذا ما ضعفت الحاسة النقدية واستسلمنا للتقاعس والسهولة. وبالتالي ينبغي تحرير اللاهوت والفلسفة معاً من اسر النزعة الدوغمائية التي يميل إليها الانسان بطبيعته. وعندئذ يمكن ان نقيم حواراً بين الفلسفة والدين.