رفض معنوي ومطلب مادي

TT

كشف المسؤول السابق عن مؤسسة جائزة نوبل قبل ايام ان المفكر الفرنسي جان بول سارتر، الذي رفض الجائزة علناً في اوائل الستينات، عاد فكتب اليه سراً يطلب قيمتها المادية! ومن الصعب على المرء ان يصدق ان «الرافض» الدائم خرّ بهذه السرعة امام اللعاب المادي الذي تعنيه الجائزة، برغم ان سارتر كان يتلقى من مؤلفاته عائداً مالياً لا يقارن. غير ان زيفاً واضحاً كان يرافق حياة سارتر. وقد ذهب في التطرف السياسي الى اقصى حدوده الممكنة، ربما فقط من اجل الخروج على «التقليد». وربما من اجل الثأر من «المؤسسة» السياسية والادبية التي رأت فيه شعبوياً لا يركن اليه. وبرغم حجم سارتر الادبي ظلت مشاعره صغيرة. فقد شعر بغضب شديد عندما اعطيت نوبل الاداب «لتلميذه» البير كامو قبله بسنوات. واعلن عداءه النهائي لشارل ديغول عندما حجب عنه وزارة الثقافة واعطاها لاندريه مالرو. وكان ديغول منذ اللحظة الاولى يضع ادباء فرنسا امام السياسيين باشواط. ففي نهاية الحرب «انتسب» الى فرنسوا مورياك وغيره. وفي بداية «الجمهورية الخامسة» جعل مالرو وزيراً وترك له المقعد الذي الى يمينه في مجلس الوزراء. ولم يترك لسارتر اي مكان على مقربة منه. وربما كان السبب الحقيقي طبع سارتر وبعده عن «الانسانيات» والقيم التي لحق بها مالرو حتى الصين. وربما كان السبب ايضاً حياة سارتر الخاصة بالنسبة الى رجل شديد المحافظة مثل ديغول. وكان كلما اقصته «المؤسسة» ازداد اقتراباً من اليسار والفوضويين والماويين. وفي ايار (مايو) 1968 تزعم سارتر التظاهرات المعادية لديغول والداعية لاسقاطه، وساهم في اصدار «ليبراسيون» التي بدأت صحيفة «ماوية» واصبحت الآن احدى الصحف الوسطية الرئيسية في باريس.

في مسرحيته «خلف الابواب» يصغي الموتى في العالم الآخر الى ما يقوله الاحباء عنهم. وما قاله مسؤول جائزة نوبل لا يرضي كثيراً النرجسية السارترية التي تهاوت في سنواته الاخيرة امام امراض الشيخوخة وضعفها. وقد وضعت سيمون دو بوفوار، «رفيقة عمره» كتاباً مذلاً عن تلك المرحلة. وبعد وفاتها هي صدر في الولايات المتحدة كتاب يؤكد انها كانت تعيش مع سارتر وتهوى كاتباً اميركياً امطرته بالرسائل. كذلك صدرت كتب وشهادات شخصية كثيرة عن الحياة المزدوجة التي عاشها اشهر ثنائي ادبي في فرنسا المعاصرة. لكن خلال حياته كان سارتر يختفي وراء قناع لا يخلع: اليسار والصوفية الادبية وعدم الخروج على العلاقة مع دو بوفوار، التي اراد من خلالها ان يؤكد ان المساكنة اقوى عرى من الزواج.

لم يعد هناك الكثير من رفاق سارتر لكي يقرأوا مذكرات المسؤول الاسكندنافي او يعرفوا ماذا كانت مشاعره عندما وصلت رسالة سارتر وهي تطالب بقيمة الجائزة التي صنع بقية مجده على رفضها. فقد توفي سارتر قبل عشرين عاماً، يوم كان لا يزال لليسار واليمين معنى مختلف، وكان «الماويون» يخيفون حتى الشيوعيين الذين لم يحبوه وحذروه طوال الوقت. والواقع ان جميع الفرنسيين قرأوه لكن احداً منهم لم يحبه او يطمئن اليه. فالطبقات البورجوازية التي هاجمها اعجبت بأدبه ونفرت من افكاره. وكل الذين قرأوا سيرته وجدوا فيها انساناً لا يحب احداً ولا يطلب الحب من احد.