العراق يتآمر على نفسه

TT

الذي يحير في المسألة العراقية، انه كلما تطور موقف الرأي العام في اتجاه تخفيف العقوبات المفروضة على العراق، وبدأ يتبلور الى مبادرة سياسية هادفة، سارعت القيادة العراقية الى اجهاض الجهود القائمة في ذلك الاتجاه، وبصورة تتجاوز مجرد رفض المبدأ، الى الهجوم العنيف، وباسلوب سافر، على كل من يتجرأ، ويفكر في طرح مبادرة تقوم على أساس رفع معاناة الشعب، باعتبار أن العقوبات في نظر النظام العراقي موجهة للقيادة السياسية، ولا تؤثر على الشعب. وكان يمكن أن يكون ذلك صحيحا لو أن كل الشعب في سدة القيادة، وبالتالي يتنعمون بكل ما تحرمهم منه العقوبات، كما هو حال كبار الضباط والمسؤولين والأقرباء والمقربين. الا أن الواقع يختلف تماما عن ذلك، فالنظام الذي لم تؤثر العقوبات على مستوى الحياة التي يعيشها في كل الظروف والأحوال، أظهر أنه غير معني بما يحدث للناس، وأن أكثر ما يعنيه هو ان يلغي كل فرصة متاحة لفتح باب الحوار في الكيفية التي يمكن بها تطوير موقف يعالج التبعات المترتبة على الوفاء بالالتزامات التي يفرضها تنفيذ قرارات الأمم المتحدة. وبعد أن هاجمت القيادة العراقية فرنسا واتهمتها أوائل هذا العام بالنفاق في سعيها الى تطوير مبادرة تتعلق بآلية عمل فرق التفتيش الدولي التابعة للأمم المتحدة، سارعت فور اعلان مجلس التعاون عن الموافقة على تلقي أفكار مكتوبة من قطر، الى اعلان رفضها المطلق التعاطي مع المحاولة القطرية في بناء أرضية صالحة لتنمية مبادرة شاملة لرفع العقوبات، واعتبرت ان محاولة قطر جهد لا طائل من ورائه.

اذا كانت القيادة العراقية ترى أن من حقها التحفظ على أي جهد لا يأخذ مرئياتها في الاعتبار، وأن لها أن ترفض، وبدون أسباب، مقنعة المبادرات التي تطرح بين الحين والآخر لتحريك الجمود الحالي منذ أن أمتنع العراق عن التعاون مع المنظمة الدولية، فان من واجبها ألا تدمر الجسور التي تمتد باتجاه الشعب المحاصر، وأن تمتنع عن عرقلة الجهود الرامية لتخفيف معاناة الانسان العراقي، وان تترك المجال مفتوحا لحرية حركة التواصل مع الشعب، دون أدنى التزام من الحكومة، أو تدخلها، بما يحفظ موقفها من المبادرات، ويثبت عدم متاجرتها بتضحيات الشعب، للحصول على مواقف سياسية داعمة لوجودها.

الاتهام الذي وجهته القيادة العراقية أمس الى جارتها ايران، بزعم استخدام الطائرات التي أودعتها لديها ابان حرب تحرير الكويت، يأتي في سياق جهد منظم، ونتيجة عمل مكثف، لاحراق كل الجسور التي يمكن أن تحول التعاطف مع شعب العراق، الى قاعدة غنية لاثراء التفهم لما ألحقه الحظر بالخدمات العامة من ضرر، وما سببه من أذى للناس البسطاء، وهي بذلك، أي ايران، في الخندق ذاته مع المتآمرين على العراق. وقدر ما كانت دولة الامارات العربية المتحدة مخلصة وبريئة في دعوتها في أكثر من منبر، للنظر في رفع الحظر، قدر ما كانت هدفا مباشرا لغارة من السخط العراقي. وعلى النقيض من القيادة العراقية أظهرت الحكومة الكويتية مرونة في التعاطي مع الجهود الدبلوماسية الرامية الى مساعدة شعب العراق للخروج من طوق العزلة التي فرضها عليه نظامه، وبامتناعها عن معارضة طرح مأساة ذلك الشعب المطحون على بساط البحث، وضعت نفسها عرضة لسلاح الاتهامات العراقية. ومثلما تتجاهل السعودية الاستفزازات العراقية، وتتمسك بوحدة أرض العراق، وحق شعبه في أن ينعم بالأمن والسلام، وتدعو الى معالجة موضوع العقوبات في اطار شامل من خلال الأمم المتحدة، لوضع حد نهائي للأزمة المستمرة منذ عشر سنوات، فانها في مرمى مدافع ادعاءات بغداد، بزعم تعريض خط أنابيب النفط العراقي عبر الأراضي السعودية للضرر جراء عدم الصيانة المنتظمة، رغم علم الجميع أن أكثر من ثلث الخط، أي الجزء الواقع داخل الحدود السعودية غير مملوك للحكومة العراقية، وهي انما تستخدمه بالايجار، وبالتالي فان من حق الرياض ـ اذا هي أرادت ـ أن تطالب بتعويض عن توقف ضخ النفط العراقي، مثلما حصلت تركيا على تعويض عن الخط المماثل. هذه الصور من أسلوب النظام العراقي في التعامل مع المواقف الايجابية تجاه رفع الحظر عنه.. تعكس بوضوح سياسته تجاه شعب بلاده، وتثبت أنه في الواقع الاجدر بالاتهامات التي يوزعها على الآخرين، والمواقف التي اتخذها كافية لادانة النظام بالتآمر على العراق، وتدمير مقدراته، وتبذير امكاناته وطاقاته، وتحطيم آمال شعبه في أن يعيش كريما مثل كل الشعوب.