صناعة الديكتاتور

TT

هل من الممكن القول ان التفكير النظري كان يغلب على المثقفين المصريين من ابناء جيلي؟ ذلك أننا كنا نتبارى في قراءة النظريات الفكرية المختلفة ونتحمس بقوة لهذه النظرية أو تلك، بما في ذلك النظرية الماركسية التي كان لديها الشيء الكثير لتقوله من خلال مناهجها في تفسير التاريخ أو في الاقتصاد أو الفلسفة. وكثيرون اهتموا بالتجربة الفاشية أو النازية وقرأوا كثيرا في فلسفات القوة الالمانية التي كانت تقدم نوعا من التبرير لتلك التجارب الشمولية، هذا بالطبع الى جانب الفكر الليبرالي الذي كان له تمثيل قوي في النظام السياسي المصري. ولكني كنت دائما اتشكك في علاقة هذه النظريات بالواقع المصري لدرجة انني كنت اتساءل بيني وبين نفسي، حتى بعد أن تقدم بي العمر، هل حقا اعرف المجتمع المصري؟

ربما كان تزاحم الافكار النظرية على عقولنا يعجزنا عن الرؤية الصحيحة، وكان من اصعب الامور عمل تصنيف طبقي للمفاهيم النظرية، سواء تبعا للفكر الماركسي أو للفكر الليبرالي، فمن هم الذين يشكلون الطبقة العاملة؟ وما هي الطبقة الوسطى أو البورجوازية أو الاقطاعية أو الفلاحية؟ وما هو نمط الانتاج الزراعي؟ وما الفرق بين الزراعة الاقطاعية والزراعة الرأسمالية؟ كل هذه اجتهادات لم تكد تتوصل الى نتيجة قطعية، وفي وقت من الاوقات وبعد ان اممت ثورة 23 يوليو المؤسسات الانتاجية ومجمل التجارة الخارجية وحوالي 70 في المائة من التجارة الداخلية كان تساؤلنا هل هذا هو اشتراكية أم رأسمالية الدولة؟ وكيف نفرق بين الشكلين؟ وقد اجتهدنا كلنا في التحليل والتفسير. والواقع ان الجدل الثقافي والسياسي الحاد الذي كان جاريا في أوروبا والولايات المتحدة كان يمدنا بالكثير من موضوعات الجدل النظري، وحتى في الأدب كنا نتعجل في تصنيف الحركات الادبية وفي اطلاق التسميات عليها، تحدثنا عن كل المدارس الفنية بما في ذلك الدادائية والسريالية والانطباعية والواقعية والرمزية والواقعية الاشتراكية بالطبع، وها نحن الآن نتحدث عن البنوية والتفكيكية وما بعدهما، وفي الفلسفة خضنا معارك طاحنة حول الوضعية المنطقية أو المادية الجدلية أو الوجودية.

وليس في هذا ما يشين ولكنه مثل كل نشاط في المجتمع المصري يقوم اولا على رغبة حقيقية في الاندماج مع العالم المتقدم والتواؤم معه. وكان هذا يظهر ـ خاصة ـ بين ابناء الطبقة العليا والوسطى في اشكال المعيشة وانماطها وثقافتها، ليس في الافكار فحسب بل في كل صغيرة وكبيرة في الحياة اليومية، بما في ذلك طريقة تناول الطعام.

وعلى الرغم من حسن النية المتوافر والرغبة في التقدم أو التشبه بالمتقدمين، الا ان الواقع الاجتماعي كان مختلفا. كان الفلاحون يعانون معاناة سيئة في الريف، وكانت الغالبية العظمى من سكان المدن يعانون من الفقر والمرض والجهل ـ حسب التسمية التي كانت سائدة في ذلك الوقت ـ كما كانت نظم الانتاج متخلفة وكان النظام السياسي اكثر تخلفا.

وكم خالجني الشك وانا اقرأ تاريخ مصر المملوكي اننا ما زلنا نعيش في نظام هذا العصر. وعلى كثرة الدراسات النظرية كانت الابحاث الميدانية شبه نادرة وكان على الباحث الميداني ان يتخلص من النظريات التي استوعبها، وان يتشبث بالواقع الذي يدرسه، وبالتقنية العلمية المضبوطة التي يستعملها للتوصل الى الحقيقة، ولكننا الى اليوم ما زلنا نعرف القليل عن طريقة الحياة في مجتمعنا، وما زال الكثيرون منا يفكرون نظريا فقط وبمعرفة قليلة عن التطبيقات العملية أو الواقعية.

وحين نتأمل الوضع القائم في مصر، خاصة عشية الانتخابات المقبلة، نرى ان هذا الفصام بين النظرية والتطبيق ما زال قائما على اشده، وان النظام الحالي ليس فقط استمرارا لنظام ثورة 23 يوليو منذ جمال عبد الناصر حتى حسني مبارك، بل هو ابعد من ذلك كثيرا، اذ ربما يرجع الى ما قبل محمد علي ايضا. فأمس فقط كنت اقرأ الجزء الثاني من مذكرات كريم ثابت، الذي كان المستشار الصحافي للملك السابق فاروق وكان فوق ذلك الصديق المقرب الذي يرافقه اغلب يومه، فاذا بي اقرأ هذا النص المثير: (ما كدت أُعين مستشارا صحافيا واشرع في مباشرة عملي في «عابدين» حتى اكتشفت ان العلاقات بين القصر والحكومة تقوم على دستورين، احدهما مكتوب ومعروف للشعب، وهو الدستور الرسمي للدولة، وقد فصل بين السلطات والاختصاصات وبين الحقوق والواجبات، والآخر «غير مكتوب» وغير معروف للشعب أو بعبارة اصدق مكتوم عن الشعب! وقد نظم هذا الدستور غير المكتوب العلاقات بين الحكومة والقصر تنظيما اصبح على مر الايام «عرفا» له قوة القانون وقوة الدستور، بل كانت له احيانا من الناحية العملية قوة اكبر من القانون والدستور! تلك هي الحقيقة التي اكتشفتها عند تعييني مستشارا صحافيا فعرفت ان الحكومة لا تعمل عملا واحدا قبل ان تخاطب القصر في موضوعه وتستطلعه الرأي في شأنه، واعني بقولي «لا تعمل عملا واحدا»، فكل عمل يستحق ان يُكتب عنه خبر في الجرائد وأؤكد انه ليس في هذا التعريف مبالغة أو مجافاة للحقيقة، فلو اردت ان احصي أو ان احصر الموضوعات والشؤون والاعمال التي كانت الحكومة ترجع فيها الى القصر قبل التنفيذ لما استطعت ذلك لكثرة عددها وحسبي هنا اذكر بعضا منها على سبيل المثال والتدليل. كان هناك قبل كل شيء جدول اعمال لجلسات مجلس الوزراء وكان جدول كل جلسة يرسل الى القصر قبل عقدها لرفعه الى الملك، وكان الملك يبدي في شأنه ما يشاء، فاذا امر بحذف موضوع منه حُذف، واذا امر بارجائه ارجئ، وكانت جميع الترشيحات للمناصب الحكومية من درجة مدير عام فما فوق تعرض على القصر، بما في ذلك المناصب الفنية التي لا تمت الى سياسة الدولة الداخلية أو الخارجية بصلة، كمنصب المدير العام لمصلحة المجاري أو منصب المدير العام لمصلحة التنظيم، فلم تكن الحكومة تقدم على تقليدها الا اذا اقر الملك اسماء المرشحين لها، وكانت الحكومة تسهيلا للعمل تعرض احيانا اسمين أو ثلاثة من المرشحين لمنصب واحد وتترك للملك ان يختار احدها. ولم يكن العرض أو الاستطلاع شكليا بل كان للملك رأي حاسم وكلمة نافذة في كل شأن من تلك الشؤون. والى جانب الاستطلاع والعرض كانت هناك الامور والشؤون التي اعتادوا ان «يستأذنوا» الملك فيها، وكانت لا تحصى ولا تعد، كانوا يستأذنون مثلا في مواعيد المحمل، وفي مواعيد تغيير ملابس رجال الجيش والشرطة صيفا وشتاء، كذلك كانوا يرفعون اليه مقدما صورة من جميع الكلمات التي كانت تلقى في الاحتفالات التي كان يحضرها أو التي كان رؤساء الوزارات يذيعونها بمناسبة الأعياد، فهل كنت بعد هذا كله ـ وهو قليل من كثير ـ مبالغا أو مجافيا للحقيقة حين قلت ان الحكومة لم تكن تعمل عملا واحدا يستحق خبرا في الصحف من دون ان ترجع فيه الى القصر مقدما؟ ولعلي بالامثلة التي ذكرتها ـ على سبيل التمثيل والتدليل لا على سبيل الاحاطة والحصر ـ قد وفقت في تصوير «الدستور غير المكتوب» الذي كان معمولا به بين الحكومة والقصر وفي جميع الوزارات في جميع الاوقات.).

هذا هو النص الذي ادهشني وأوقفني عنده طويلا، اذ يبدو ان هذا الدستور المكتوم عن الشعب ما زال ساريا على الرغم من اختلاف الظروف والازمنة، وكان كريم ثابت يتحدث عن فترة نضال الشعب المصري من اجل الاستقلال، ومن اجل الدستور بصفة خاصة، وهو الذي حدث جدل حاد حوله منذ لجنة وضع الدستور وتوزيع السلطات المختلفة في بداية العشرينات من القرن المنصرم. وبعد اقل من عقدين على صدور هذا الدستور لم يلبث ان ظل صورة شكلية وجرى العمل بدستور آخر مكتوم عن الشعب، كما يقول كريم ثابت حتى استشرى الفساد في النظام السياسي كله واضطر المجتمع الى ان يسقطه بالثورة.

والامر يبدو محيرا في أي حال، اذ ان مؤسسة الرئاسة بعد الثورة لم تلبث ان ركزت في يديها كل شيء، ليس فقط قرار موعد المحمل، بل حتى مجمل النشاط الاقتصادي كله، فضلا عن الاعلام والثقافة، وانشأت وزارة للارشاد القومي حتى ترشد الشعب الى طرق التفكير الصحيحة، وهي الوزارة التي تحولت بعد ذلك الى وزارة للاعلام تقوم بالدعاية لمؤسسة الرئاسة بصفة خاصة.

ان النظام السياسي المصري في حاجة الى دراسة ومراجعة من مراكز البحث الموجودة، على الرغم من انها تابعة هي الاخرى للمركز الأم، وهو مؤسسة الرئاسة في النهاية، فهل هو نظام رئاسي؟ وما هي سلطات المؤسسات المقابلة.. مثل البرلمان بمجلسيه؟ وهل يملك البرلمان الذي سينتخبه الشعب عما قريب سلطات وقف القرارات الرئاسية؟ وهل الدستور الرسمي المعلن يعمل بالفعل؟ وما هي علاقته بالانظمة الدستورية المعروفة في العالم المتقدم؟ أم أن الذي يعمل هو دستور «غير مكتوب» ومكتوم عن الشعب؟

وهل نحن نتحدث كثيرا، أو قل نثرثر كثيرا في المواضيع النظرية والفقهية بينما الواقع له قوانينه وشروطه التي يفرضها على العمل العام؟ وهل ثقافة هذا المجتمع التقليدية تفرض هذا النمط من النظم السياسية التي تركز السلطة المطلقة في مؤسسة الرئاسة، سواء كانت ملكية أو جمهورية؟ وهل يبدو ـ في مثل هذه الثقافة المنتشرة في غالبية العالم العربي ـ ان الجمهورية لا تختلف عن الملكية وأنها من الممكن ان تورث ايضا؟

ان النظام السياسي في أي مجتمع يتغير حسب تطور المجتمع والتغييرات التي تحدث فيه، فهل معنى ثبات النظم الديكتاتورية ان المجتمعات العربية لم تتغير أو تتطور بما يستدعي تغيير النظام السياسي؟

ان رجلا مثل كريم ثابت يلقي باللوم على السياسيين المصريين الذين كانوا يملكون ـ في رأيه ـ توجيه الملك فاروق، الذي تولى العرش في سن صغيرة جدا، نحو الاصول الديموقراطية التي كان ينص على بعضها دستور سنة 1923. لكنهم بدلا من أن يفعلوا ذلك ظلوا يؤكدون ذلك الدستور غير المكتوب والمكتوم عن الناس ويتوسعون فيه حتى صار فاروق، الشاب الصغير، ديكتاتورا بالغ البشاعة وانتهى الى ان يفقد عرشه، هل فعلوا ذلك عن قصد مبيّت؟ ولكن لماذا؟ الواقع ان الملك فاروق لم يكن يملك في بداية عهده من السطوة ما يمكنه من قهر المجتمع السياسي الذي يعايشه. ولذا من المبرر ان يشك المرء في النوايا الداخلية لهذا المجتمع السياسي، كما يحق للمرء ان يتساءل: أليس من المحتمل ان تكون هذه هي الرغبة الكامنة أو الميل التاريخي ـ إن صحت العبارة ـ لذلك النوع من المجتمع السياسي، ثم أليس الامر استمر على نفس الصورة بعد الثورة على النظام الملكي ونشوء الجمهورية والتطور التدريجي لشخص وحقوق القائم بأعمال الرئاسة الى أن يصبح مركز كل السلطات في المجتمع؟

واخيرا، هل هذه البلبلة الفكرية التي نعانيها ترجع الى ازدواجية في عقليتنا جميعا، حيث لنا ظاهر مختلف تماما عن الباطن المكتوم؟ وهل ان الركون الى التنظير، بدلا عن البحث الميداني واستنباط قوانينه ونظرياته، هو احدى خصائص تلك العقلية الغريبة المثقلة بتراث رهيب من التسلط والطغيان، فكريا واجتماعيا؟ أم اننا بالفعل لم نتغير منذ دهور سحيقة؟

#