الإصلاحات وحدها لا تحل مشكلة الفقر

TT

يلتقي في عاصمة الجمهورية التشيكية براغ معارضو النظام الاقتصادي العالمي الجديد وبعض المثاليين الذين لم يستطيعوا مواكبة وتيرة التغيير السريعة في عالم اليوم. ويعتقد هؤلاء ان هذا التجمع المرتقب سيكون اكبر مهرجان احتجاج في التاريخ الحديث. وتصادف المناسبة الاحتجاجية المرتقبة انعقاد الدورة السنوية للبنك الدولي، اذ تعتبر هذه هي المرة الاولى التي ينعقد فيها الاجتماع السنوي للبنك خارج مقره الرئيسي بواشنطن.

وتأتي جموع المحتجين إلى براغ وهي مزودة بذخيرة كافية من المعلومات اخذت من اخر تقرير صادر عن البنك حول الفقر العالمي، اذ يرفض التقرير المشار اليه ان النمو الاقتصادي يساعد بمرور الزمن على ازالة الفقر. ومن خلال مجموعة من الدراسات التي اجريت في عدد من الدول التي تتعامل مع البنك الدولي تم التوصل إلى نتائج مهمة في هذا الجانب. فقد اورد التقرير ان النمو الاقتصادي يخدم في الغالب الاثرياء فقط ويؤدي باستمرار إلى توسيع الهوة بين الاغنياء والفقراء في اميركا الجنوبية وآسيا وافريقيا. اما اكثر الدول التي تعاني من ظاهرة الفقر فتتركز في دول افريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرق اسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.

وتعتقد المجموعة التي اعدت التقرير ان الاقتصاد وحده ليس كافياً لمعالجة مشكلة الفقر، وانه يجب القيام بعمل سياسي ملموس لازالة التفاوت والظلم. هذا الاتجاه سيثير بالتأكيد غضب انصار السوق الحر الذين يعتقدون ان النظام الاقتصادي العالمي الجديد سيخرج الجميع من نفق الفقر، وان اي عمل سياسي لتصحيح التفاوت والظلم ربما ينسف احتمالات النمو ويوسع دائرة الفقر. تقوم مبادئ اقتصاد السوق على افتراض ان النسبة الاكبر من عائد النمو اذا ذهبت إلى جيوب الاقلية في اي مجتمع، فان هذه الاقلية ستصرف هذا الدخل مما سيخلق وظائف جديدة للاخرين. وبمعنى اخر يقوم اقتصاد السوق على اساس منطق يفترض ان هناك حاجة إلى الاغنياء لاخراج الفقراء من فقرهم.

ربما تنجح سياسة اعادة التوزيع في تقليص عدد الفقراء على المدى القصير، لكنها ستؤدي إلى افقار الغالبية العظمى في نهاية الامر. يدرك طلاب تاريخ الاقتصاد ان الدول الصناعية الاولى نجحت في تقليص وازالة الفقر بفضل معدلات النمو العالية وذلك قبل فكرة استخدام الضرائب القائمة على اساس اعادة التوزيع وتطبيقها على ارض الواقع.

قمة نجاح نظام اعادة توزيع الدخل تمثلت في نموذج الاتحاد السوفياتي السابق حيث سيطرت الدولة على كل شيء، غير ان هذا النظام، الذي مر بفترة نمو اقتصادي عالٍ بصورة غير مسبوقة، شهد ثلاثة عقود من الكساد الذي ساهم في سقوط الامبراطورية الشيوعية.

هل يعني كل ذلك عجز اي عمل او خطوة سياسية في تقليص رقعة الفقر؟ يجيب بالنفي عن هذا السؤال جيمس ولفينسون، رئيس البنك الدولي الذي يعتبر نفسه «حامياً للفقراء». وتقوم حجته الرئيسية على اساس ان استمرار مستويات الفقر العالية تمنع توسيع الاسواق الوطنية في كثير من الدول وتضر بالتالي بامكانيات النمو الاقتصادي نفسه. الحل يكمن في تمكين المزيد من المواطنين، بمن في ذلك الاكثر فقراً، من دخول السوق كمستهلكين. يعني ذلك ان يتمتع هؤلاء ببعض القوة الشرائية في الاقل. يمكن القول هنا ان تحليل ولفينسون مسنود بعدد من الحقائق. فنصف سكان العالم تقريباً يعيش على دخل يقل عن دولارين في اليوم. يعني ذلك ان ما يسمى بالسوق الكونية في واقع الامر ليس سوى نصف سوق كونية، اما الأسوأ من ذلك فهو ان 20 بالمائة من سكان العالم، الذين يتركزون بصورة رئىسية في الدول الغنية باوروبا واميركا الشمالية واليابان، يتقاضون دخلا كبيراً وكافيا إلى الدرجة التي تمكنهم من دخول اسواق منتجات جديدة.

يعني ذلك ان آلة الانتاج العالمي اكبر بكثير من الاسواق الموجودة واكبر بالتأكيد من الطلب. ضعف الطلب العالمي، خصوصاً في مجال المنتجات ذات التكلفة العالية والخدمات المرتبطة بمستويات المعيشة العالية، يعتبر واحدا من الاسباب وراء انخفاض معدلات التضخم في غالبية الدول الصناعية منذ منتصف عقد التسعينات. لذا فإن الطاقة الانتاجية للاقتصاد الكوني يجب ان تجد اسواقا جديدة ليس فقط لاستمرار الاستثمار في منتجات بعينها وانما للمحافظة على مستويات التوظيف الراهنة في الاقتصادات الرئيسية في العالم.

لذا فان ازالة الفقر تعتبر ضرورة اقتصادية ليس بالنسبة إلى الفقراء فقط وانما إلى الاغنياء كذلك لانهم ان ارادوا الاستمرار كأغنياء وحتى ان ارادوا ان يصبحوا اكثر ثراء لا بد ان يساعدوا الفقراء في ايجاد موطئ قدم ولو محدود في السوق العالمية بان يصبحوا مستهلكين. السؤال المهم في هذا السياق هو: ما هو السبيل إلى تحقيق هذه الضرورات المتعارضة؟ ليس ثمة حديث حول «التخطيط الاقتصادي» وتدخل الدولة سواء كان ذلك بصورة فردية او عن طريق منظمات مثل البنك الدولي لتحديد السياسة الاقتصادية. يضاف إلى ما سبق ان فكرة ان يصبح البنك الدولي حكماً في الجدل والنقاش الخاص بالاقتصاد العالمي لم تجد قبولاً واسعاً.

ومع ذلك هناك تدابير سياسية يمكن ان تضمن استمرار معدلات النمو الاقتصادي الراهن مع رفع عبء الفقر عن كاهل بعض الدول في الاقل.

يشير تقرير البنك الدولي إلى التدابير المطلوبة رغم ان ذلك مكتوب بغلة التكنوقراط الاقرب إلى الشفرة. يؤكد التقرير على وجود صلة قوية بين الاصلاح السياسي والنمو الاقتصادي. ويشير تقرير البنك الدولي إلى ان مستويات الفقر تدنت بصورة واضحة في الدول التي ادخلت اصلاحات سياسية وتبنت نظاماً سياسياً تعددياً. فالدول التي تبنت نظاما سياسيا تعدديا واتاحت لسكانها حرية التعبير حققت نجاحا اكبر من الناحية الاقتصادية مقارنة بالدول التي تتبع نمطاً من انماط الحكم الديكتاتوري. وحتى في حالات دول مثل الصين، حيث معدلات النمو الاقتصادي العالية، فإن الخبراء الاقتصاديين يتفقون على ان الافاق المستقبلية على المدى الطويل غير واضحة.

هل ينبغي الربط بين الاقتراض من البنك الدولي والاصلاحات السياسية؟ يحاول كبار مسؤولي البنك تجنب هذا السؤال ويحاولون بدلا من ذلك طرح مجموعة من الاصلاحات الاجتماعية والثقافية واخرى متعلقة بنمط الحياة، اذ ان هذه الاصلاحات لا يمكن تطبيقها دون التحرير السياسي. الحكومات غير المسؤولة امام شعوبها لا مصلحة لها بالتأكيد في اقتسام ثمار اي فوائد للاستثمارات والمساعدات الخارجية بما في ذلك قروض البنك الدولي. ثمة امثلة على دول كانت على علاقة ودّ وتقارب مع البنك الدولي، إلا ان هذه الدول دخلت القرن الجديد وهي تعاني من ارتفاع مستويات الفقر اكثر مما كان عليه الحال في السابق. ففي كل هذه الدول يمكن ان نلاحظ ان النخب الحاكمة فيها رفضت باستمرار توسيع قاعدة الحكم وقبول النهج التعددي والمسؤولية السياسية امام الناخبين.

وعلى العكس مما ورد في تقرير البنك الدولي، فإن الفقر مشكلة سياسية وليست اقتصادية. هذه تحديداً هي الرسالة التي ستحاول جموع المحتجين في براغ ابلاغها رغم ان ذلك قد يتم بطريقتهم التي تتسم بالفوضى والشغب.