النتائج الكارثية لإخفاء الحقائق

TT

النفاق هو الإدعاء بأن التنازلات لم تحدث.. ثم الانجرار وراء حلول جوفاء ستؤدي إلى كوارث يسود الشعور بين الفلسطينيين والعرب انهم لايعرفون تفاصيل ما دار في المفاوضات، ولا حجم التنازلات التي لم تعلن رسمياً بعد. قد يكون سبب هذا الشعور مرتبطا هذه الايام جزئياً بالتكتيك الاسرائيلي الاعلامي الذي يوحي بأن كل الامور حُلت ولم تبق غير قضية الحرم القدسي الشريف... ذلك بالتأكيد وحتى هذه اللحظة غير صحيح، ولكن الشكل الاجمالي للحل شبه واضح سواء من سياق الامور او اقوال وافعال فلسطينية سابقة حتى وان لم تكن رسمية... مفاد القول ان العرب والفلسطينين وعبر التجربة يشعرون بعدم الاطلاع على الحقيقة وبوجود كذب يقال لهم، والكذب هو اصل الفواحش ويقود الافراد والامم الى المصائب. من خير ما قيل حول الكذب ويهمنا تذكره هذه الايام هو حديث نُقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم انه قال: «ثلاثٌ من كنَ فيه كان منافقاً: من إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان». منذ توقيع اتفاقية اوسلو قبل سبع سنوات ونحن نتعرض لسيل من الاقوال والشعارات غير المطابقة للواقع... قيل ان التفسير الفلسطيني للاتفاقية، والذي سيعكس ذاته في المفاوضات، مفاده ان اوسلو تعني انسحاب اسرائيل من كل الضفة والقطاع، وطبعاً الانسحاب من كل القدس الشرقية، وسحب المستوطنات، وحل قضية اللاجئين حسب قرارات الامم المتحدة بالعودة والتعويض، واقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية. كل ذلك في مقابل تأمين الامن الاسرائيلي والاعتراف بسيادة اسرائيل السياسية على فلسطين المحتلة عام ثمانية واربعين.

تغيرت الامور تباعاً في اتجاه مضاد للتفسير الفلسطيني لاتفاقية اوسلو، وبغض النظر عمن هو المسؤول عن افشال ذلك التوجه، استمر القول الفلسطيني على حاله، واستمرت المفاوضات تسير في اتجاهات مشتتة لا تتجه للهدف، ولم تنفذ وعود الاحتفاظ بالخطوط الحمراء والثبات على الحقوق الفلسطينية رغم الحديث اليومي عن تمسكهم بالحقوق. منذ شهر يوليو الماضي اثناء وبعد اجتماع كامب ديفيد الفلسطيني، تجلت اشياء عديدة تؤكد الابتعاد غير المعلن عن السلام وعن طريق التمسك بالحقوق التي هي الحقوق الدنيا اصلاً، والتي بدونها لا معنى ولا ضمانة للسلام... الرئيس كلينتون مثلا الغى دور اميركا كوسيط نزيه بين الطرفين دون ان يكون ذلك مفاجئا، اذ ان اسرائيل كان لها مفهوم مخالف لاتفاقية اوسلو وابلعت الادارة الاميركية، وغيرها عالمياً، ابلعتهم سيلاً من الرؤى منها: ان اتفاقية اوسلو هي سقف اعلى للفلسطينيين وارضية سفلى للاسرائيليين، وان التفاوض بين الموقفين يجب ان يراعي الوضع الديمقراطي الاسرائيلي لان رفض الجمهور سيلغي الحكومة والسلام، بينما الامر لدى الطرف الفلسطيني مخالف لانعدام الديمقراطية اولاً، ولانهم يأخذون ولا يقدمون ومهما اخذوا فافضل من لا شيء. وقيل ايضاً ان الاسرائيليين اتخذوا قرار السلام الصعب بينما الاطراف الفلسطينية لم تلغ فكرة العنف وبالتالي لا بد من اقرارهم ان الحل نهائي ولا مطالب اخرى لهم لاحقاً. ضمن هذا التوجه والكثير من التفاصيل اليومية التي صاحبت عهد الادارة الاميركية الحالية لسبع سنوات، تصرف الرئيس كلينتون في كامب ديفيد، وبوضوح تام، من منطلق ان اوسلو ليست اتفاقاً وانما رؤية للمفاوضات، وعلى كل طرف التنازل عن مطالبه ورؤيته لاوسلو واللقاء في الوسط! دعونا نتذكر قصة الحل الوسط حتى نتوخي المستقبل: قبيل عام ثمانية واربعين كان لليهود ثلاثة بالمائة في فلسطين ومنحتهم بريطانيا الانتدابية اربعة بالمائة. قبل عام من النكبة اقترحت واقرت الامم المتحدة تقسيم فلسطين الى دولتين ودعمت قيام دولة واحده اخذت ثلاثة ارباع البلد ورفضت تطبيق قرار العودة، ثم اخذت الربع الباقي بالقوة ايضاً، ثم جاء اتفاق اوسلو لاعادة الربع وبعد سبع سنوات اتضح ان الربع غير مضمون والقدس غير مضمونة وعودة اللاجئين ضمن قرارات الامم المتحدة غير مطروحة... بل المطروح هو حلول وسط لتلك الحلول الوسط التي كانت نتيجة لحل وسطي لم ينفذ أي منها بل كانت القوة هي المقرر دوماً... رغم ذلك يقول المفاوض الفلسطيني امس واول من امس وكل يوم، انه لم يُخلف الوعد ولم يتنازل عن الامانة، وهذا ما لا يصدقه احد. المأساة الحقيقية كانت في قضية القدس، فقد تعرضنا مع بقية العالم منذ كامب ديفيد الى عملية غسيل مخ شارك فيها اعلام وزعماء عرب ووسطاء دوليون، اذ وقع الجميع في مطب طرح الحلول الوسط للقدس، فاذا بالنتيجة حديثاً وصل الى تفاصيل كيفية بناء الهيكل في ساحة الحرم القدسي الشريف بين الاقصى والصخرة وتنظيم مرور البشر في الساحة بوجود قوات دولية، وذلك رغم انه في كل الاتفاقيات والمفاوضات لم يكن هناك أي ذكر لموقع ديني باسم الهيكل.

كان المفروض ألا يدخل المفاوض الفلسطيني لحظة واحدة في مناقشات حول القدس الا مطلب الانسحاب وتطبيقة اولاً... لكن المفاوض فاوض وقدم قبل البداية حائط المبكى، أي الجدار الغربي للاقصى، وقدم حارة اليهود ووقع في المطب العنصري، وتنازل عن غير ذلك فاذا بابن العم يفرض موقعاً دينياً جديداً هو الهيكل بين المسجدين ويريد السيطرة عليه. كل ذلك كان معروفا سلفاً وتم التحذير منه منذ سنوات طويلة... قريباً سيدعون العثور على الهيكل في الحفريات الجارية منذ ربع قرن مع سكوت عربي وفلسطيني، وهم يستفيدون الان من طروحات الحلول الوسط لتأكيد مطالبهم بعدم التنازل عن «الهيكل» وكلما تقدم زعيم عربي او عالمي بحل وسط فان موقفهم يتأكد ويصرون على التفرد في السيادة... بعد ذلك بحل او بدونه سيصلون في الساحة، ثم سيمنعون المسلمين من الصلاة في اوقات محددة لمنع الاحتكاك والصدام مع اليهود، ثم سيقتسمون الساحة بما فيها كما حصل في الخليل، وفجأة ستنهار ارضية الاقصى بسبب خطأ في الحفريات تحته، ثم سيقام الهيكل وسيجدون مبررات كثيرة لهم في أي اتفاقية تعقد الان حول القدس ولا تضمن اعادة الوضع لما كان علية قبل الاحتلال. ذلك كله لم يأت من الفراغ ولكن من اخفاء الحقائق والاخلال بالوعود والاستهتار بالامانة اثناء الركض خلف المفاوضات، كما ان ذلك لم يأت فجأة، فبعد اوسلو ذاع صيت وثيقة «ابو مازن ـ بيلين» كحل وسط للخلافات في اتفاقية اوسلو، ونقلت نشرة «ميدل ايست ميرور» هذا الاسبوع عن مسؤول اميركي سابق ان الرئيس كلينتون اعتبر الوثيقة نقطة انطلاق لطرح الافكار، أي ان التنازلات التي ضمتها الوثيقة لتمرير اوسلو تم ابتلاعها، ونظر اليها مجدداً وكأنها سقف للمطالب الفلسطينية يجب التنازل عنه بأتجاه الحل الوسط. وللأمانة فان مقترحات كلينتون اختزلت محتوى الوثيقة في ما يخص القدس، هكذا فجرم الوثيقة هو التفاوض اصلاً حول القضية لانهم دوماً يحورون الاتفاقيات، وها هو الرئيس كلينتون قد اعتبرها سقفاً فلسطينياً وطرح حلولاً اكثر ظلماً للفلسطينيين ولا علاقة لها بروح او نصوص الوثيقة التي لم يرد فيها أي ذكر للهيكل وانما للاقصى والكنيسة. وجاء في البند الثالث عشر ان: «دولة فلسطين ستأخذ سيادة اضافية على الحرم الشريف تحت ادارة اوقاف القدس. الوضع الحالي في ما يتعلق بحقوق الوصول لاماكن الصلاة سيضمن». لقد نشرت مجلة «نيوزويك» هذا الاسبوع على موقعها الانترنتي تفاصيل الوثيقة لاول مرة، ولكن بدون الخرائط. في قضية اللاجئين فان التنازل الذي جاء في وثيقة «ابو مازن ـ بيلين» يعادل الكارثة، واذا صدق القول بأن الرئيس كلينتون انطلق من بنود المعاهدة ساعياً الى حل وسط، فليس من المستغرب اعتباره وغيره، ان قضية اللاجئين محلولة ومتفق عليها، فالوثيقة تقول ان للفلسطينيين حقوقاً في العودة ولكن التطورات على الارض تمنع التطبيق، وان «الطرف الفلسطيني يعلن استعداده قبول اجراءات وسياسات تحسن قدر الممكن ظروف اللاجئين»... بينما اسرائيل من جانبها «تعترف بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة الى الدولة الفلسطينية وحق التعويض عن الخسائر المعنوية والمادية»... هكذا فما قيل بعد كامب ديفيد ان مائة الف قد يعودون ضمن سياسة لم الشمل، وان التوطين والتعويض هو نصيب بقية اللاجئين، ذلك القول لم يكن مخالفاً للحقيقة، وانما النفاق هو الادعاء بان التنازلات لم تحدث.. ثم الانجرار الى حلول جوفاء ستؤدي حتماً الى الكوارث.