أبعاد التشدد الفرنسي في الملف النووي الإيراني

TT

في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، كان العالم على موعد لإعلان نجاح جولة المفاوضات بين إيران والدول الست الكبرى حول الملف النووي في جنيف، لكن الأمور تعقدت في اليوم التالي، وتم الاتفاق على جولة جديدة من المفاوضات يومي 20 و21 من الشهر نفسه، إذ لعب وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس دورا أساسيا في تعطيل الاتفاق، بعدما سرّب تفاصيل تفاوضية مهمة للصحافيين عند وصوله إلى جنيف، ثم عاد وخرق البروتوكول عندما كشف في مؤتمر صحافي فشل المفاوضات، إذ أخذ فابيوس على مسودة الاتفاق أنها صيغت إيرانيا وأميركيا، وأنه لا يريد أن يصبح مجرد شاهد على الاتفاق. واعتبرت باريس أن ما قامت به وأصرت عليه «ليس لخدمة هذا الطرف أو ذاك»، بل لخدمة هدف منع انتشار السلاح النووي، وأن الجهة الأولى المستفيدة منه ستكون منطقة الشرق الأوسط، مشددة على أن أي اتفاق يجب أن يأخذ بعين الاعتبار المبادئ الأساسية التي اتفقت عليها الدول الست منذ سنوات، وهو منع إيران من استخدام برنامجها النووي للحصول على السلاح النووي.

وعلى الرغم من أن باريس لم تنجح في النهاية في عرقلة الاتفاق «التاريخي» بين القوى الكبرى وإيران بشأن ملفها النووي، فإن هذا الموقف الفرنسي المتشدد طرح تساؤلات من قبيل: هل كان الأمر مجرد توزيع للأدوار بين باريس وواشنطن لـ«ابتزاز» الإيرانيين لتقديم تنازلات حقيقية في قضية الملف النووي، أم كان على العكس تماما «مزايدة» فرنسية على الموقف الأميركي و«مناكفة» لها، استدعاء لتراث ديغولي في السياسة الخارجية الفرنسية؟ وما هي حقيقة الدوافع والأهداف الفرنسية وراء هذا التشدد؟ أم كان الأمر مجرد محاولة فرنسية للحصول على حصة في كعكة الاقتصاد الإيراني؟

في الواقع يمكن القول إن موقف فرنسا هذا ليس مفاجئا، فمنذ عامي 2002 و2004 اتخذت فرنسا الجانب المتشدد في الملف الإيراني بسبب سقوط الاتفاق الإيراني - الغربي وقتها، الذي تتهم باريس طهران بعدم احترامه. وإلى جانب الذكريات المؤلمة لفابيوس مع إيران عندما كان رئيسا للحكومة في الفترة بين عامي 1984 و1986، مثل قضية الرهائن الفرنسيين في لبنان، يبقى الخلاف الرئيس لفرنسا مع إيران هو المساندة القوية التي تقدمها طهران لنظام بشار الأسد الذي تأمل باريس في إسقاطه، ودعم طهران لحزب الله في لبنان. وقد التزمت الحكومة الاشتراكية الفرنسية الحالية سياسة خارجية «قوية» جعلتها إلى يمين إدارة أوباما في ليبيا ومالي وسوريا وأخيرا في إيران. هذا فضلا عن الاعتبارات الاقتصادية التي تحرك الموقف الفرنسي، فقد كان فابيوس أحد مؤسسي الدبلوماسية الاقتصادية، وهو لذلك حريص على ضمان حصة الشركات الفرنسية في السوق الإيرانية الواعدة، بعد خروجها تدريجيا منذ عام 2008 من إيران، إذ بعد ثلاثة عقود من الانسحاب الأميركي من إيران والعقوبات، تتأهب الشركات الأميركية والألمانية والبريطانية لاستعادة سوق تعد بأكثر من 60 مليار دولار لتأهيل البنى التحتية والمنشآت النفطية وصناعة الغاز والنقل.

ومن ناحية ثانية، هناك صورة فرنسا باعتبارها مفاوضا دوليا رئيسا وليست تابعا للولايات المتحدة، وهذا ما كان حريصا عليه فابيوس، في معرض دفاعه عن موقفه المتشدد في التفاوض مع إيران، خلال مقابلة مع راديو «أوروبا 1»، قائلا إن «فرنسا ليست تابعة ولا معزولة». وفي الواقع فإن هذا الموقف يعكس رغبة الفرنسيين في الانتقام من الأميركيين الذين أهانوا الدبلوماسية الفرنسية في أكثر من ملف: التخلي عن الضربة العسكرية ضد سوريا من دون إعلام فرنسا التي تطوعت للمشاركة فيها، ثم الاتفاق الروسي - الأميركي بشأن الأسلحة الكيماوية السورية، الذي استبعد فرنسا من أي دور في التسوية حول سوريا، إذ غاب لوران فابيوس عن كل الاجتماعات التحضيرية التي أدارها وزيرا الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأميركي جون كيري.

ومن ناحية ثالثة، هناك تحالفات فرنسا الشرق أوسطية وموازين القوى فيها، وهو ما لمح إليه فابيوس بالقول إن التسوية «ينبغي أن تضمن أمن إسرائيل والمنطقة»، حيث تملك فرنسا علاقات استراتيجية مع إسرائيل، وفي هذا السياق صرح وزير الخارجية الفرنسي السابق، برنارد كوشنير، بأن الموقف الفرنسي المتشدد حيال إيران يمثل إشارة جيدة تبعث بها باريس إلى إسرائيل، واستعراض ناجح للقوة من جانب التيار المؤيد للدولة العبرية في «الحزب الاشتراكي» الحاكم بزعامة هولاند. وفي الوقت نفسه تمتلك فرنسا علاقات ممتازة مع دول الخليج العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وهذه الدول لديها هواجس قوية بشأن البرنامج النووي الإيراني ومساعي إيران للهيمنة، وخلال حكم الرئيس السابق ساركوزي كانت الدوحة تشكل محور الدبلوماسية الفرنسية ونقطة ارتكازها في مقاربة سياستها العربية، من دارفور فالساحل الأفريقي فليبيا وصولا إلى لبنان وسوريا وإيران طبعا، علاوة على الاستثمارات القطرية في فرنسا والبالغة نحو 15 مليار دولار، في حين ركزت دبلوماسية الرئيس هولاند على الرياض، حيث يقوم تنسيق فرنسي - سعودي واسع في مقاربة الملف السوري والوضع في لبنان. ويعتقد الفرنسيون أنهم سيملأون الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب الأميركي من الخليج ويطمحون إلى المزيد من التقارب مع الرياض، التي تظهر ضيقا من التقارب الأميركي – الإيراني، وتقاسم الهواجس معها. ويطمح الفرنسيون من تحالفهم مع الرياض لعقد المزيد من الصفقات في الدفاع والبنى التحتية والنقل ومفاعل نووي تقدر كلها بثلاثين مليار دولار. وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وقعت الرياض عقدا مع الفرنسيين لتأهيل أربع فرقاطات بقيمة مليار و100 مليون يورو. وينتظر الفرنسيون توقيع الرياض على عقد بقيمة مليارين ونصف مليار دولار يشمل صواريخ من الجيل الجديد من طراز «كروتال»، هذا فضلا عن العلاقات الممتازة مع دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث القاعدة البحرية الفرنسية على الخليج وصفقات الأسلحة بمليارات الدولارات.

* نائب مدير تحرير مجلة «الديمقراطية» - مؤسسة «الأهرام»