من غاندي إلى جمال دبوز

TT

«لقد فعلها غاندي ونجح.. لماذا لا نفعلها نحن؟».. هذا ما يقوله أحد ممثلي فيلم «المسيرة» لرفاقه وهم يتجادلون حول العنصرية.. هل يحاربونها بالقوة، أي رصاصة مقابل رصاصة وقتيل مقابل قتيل، أم بالمقاومة المدنية السلمية، مثل السياسي الذي كان في رهافة ريشة، ومع هذا تمكن من أن ينتزع من الإنجليز استقلال بلاده التي كانت درة التاج البريطاني؟

لكن بين المهاتما غاندي وشباب ضاحية «المنغيت»، جنوب مدينة ليون الفرنسية، تاريخاً طويلاً وجغرافيا بعيدة. إن أغلبهم من مهاجري شمال أفريقيا، جاء آباؤهم للمساهمة في تعمير فرنسا وضخ مناجم الشمال ومصانع «رينو» و«بيجو» للسيارات بالعمالة الرخيصة. لقد رصفت أكف الآباء الشوارع الجميلة في باريس، حجرا حجرا، بينما لا يحسن الأبناء الانتظام في دراسة ولا يجدون عملا سوى الضجر عند المداخل القذرة والمظلمة لعمارات بنيت لذوي الدخل المحدود، أي الفقراء. ويكفي أن يرمي طفل حصاة على سيارة للشرطة حتى تطوق الدوريات الحي ويسقط شاب برصاصة طائشة. ما اسمه؟ «موح» أو ربما «عبدول»، حسب الطريقة الفرنسية الشائعة في اختصار اسمي محمد وعبد الله.

قبل ثلاثين سنة، قرر نفر من شبان وشابات «المنغيت» السير على الأقدام، صعودا من مرسيليا إلى باريس، للاحتجاج على من يستهدفهم بالبنادق كالعصافير، حتى وصل عدد القتلى إلى مئات. والمجموعة المؤلفة من ثمانية أفراد، بينهم فرنسي ومصورة كندية، وجدت نصيرا لها في شخص كاهن وافق على أن يسير معهم ويمنح مبادرتهم شيئا من الثقل أمام وسائل الإعلام. وقد تطوع سائق شاحنة صغيرة ووضع سيارته تحت تصرفهم، تنقل لافتاتهم ومعلبات طعام قد تكفي لأسبوع.

اليوم، يقرر مخرج اسمه نبيل بن يدير أن يعيد الحدث إلى الشاشة. لقد كانت أول مسيرة من نوعها، في فرنسا، ضد العنصرية ومن أجل المساواة.. لكن أيا من المنتجين لم يتحمس للمشروع، إلى أن جاء طائر الإنقاذ جمال دبوز. لقد أحب الجمهور هذا الكوميدي المغربي الأصل الذي صار من نجوم الصف الأول، ويكفي أن يزج باسمه في أي عمل لكي يضمن له النجاح.

في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 1983، بعد سنتين على دخول الاشتراكي ميتران إلى «الإليزيه»، انطلق المحتجون الثمانية من «المنغيت»، الحي الذي لم يسبق لبعضهم مغادرته، في اتجاه مرسيليا ليبدأوا منها مسيرة امتدت لأكثر من ألف كيلومتر في شتاء قارس ومطر يصيب حتى العظام بالبلل. وكان هناك من يستقبلهم بالتشجيع والضيافة، على الطريق الزراعي وفي القرى والمدن التي يمرون بها، أو يترك أعماله وينضم إليهم، وهناك من يبصق عليهم ويشتمهم ويصرخ فيهم: «عودوا إلى بلادكم!».

أي بلاد؟! لقد ولدوا في فرنسا ولا يعرفون وطنا غيرها. وهم يرفضون أن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية في الجمهورية التي ترفع لافتات حقوق الإنسان. ولما وصلت المسيرة إلى باريس، في الثالث من ديسمبر (كانون الأول)، كان هناك العشرات قد انضموا إليها في الطريق، ومائة ألف مؤيد في انتظارها في ساحة مونبارناس، بينهم وزيرة شؤون الأسرة جورجينا دوفوا التي أبلغت شباب «المنغيت» أن الرئيس ميتران يود أن يستقبلهم.

جمال دبوز، قام بدور العربيد الذي يصر على الالتحاق بالمسيرة رغم نفور الآخرين منه. إن هذا الممثل المشلول اليد، القصير القامة، البارع في التهريج، الذي يتلعثم في الكلام، حاز إعجاب الفرنسيين منذ تلك اللحظة التي وقف فيها، في حفل فني، بجوار عارضة الأزياء السلوفاكية الفارعة أدريانا كيريمبو ورفع رأسه متطلعا إليها وقال: «كيف الجو عندك في الأعالي؟!». وبعدها صار الولد المغربي نجما ينال أعلى الأجور في السينما، وأيقونة في أوساط المهاجرين، وصاحب مسرح يحمل اسمه، وزوجا لأجمل مذيعة فرنسية. ألهذا السبب بات يغالي في السخرية من المقدمين الذين يستضيفونه في نشرات الأخبار؟ يرفض الرد على الأسئلة ويعانق مقدمة النشرة ويركض في الاستوديو من اليمين إلى اليسار وبالعكس!

إن جمهور جمال دبوز يحبه مهما فعل.. لذا فمن حقه عليه ألا يفعل أي شيء كان.