الحس الذي عاش به السادات

TT

أذكر الآن جيدا، ذلك اليوم الذي كنت قد ذهبت فيه أزور الراحل الكبير أنيس منصور في مكتبه، في «الأهرام»، وكيف أنه روى لي يومها، أنه ذهب إلى الرئيس حسني مبارك، ذات يوم، وكان لا يزال في الحكم طبعا، ليقنعه بأن يكتب مذكراته، أو بمعنى أدق يدون سيرته الذاتية، على نحو ما كتبه الرئيس السادات، وهو في الحكم، وصدرت تحت عنوان: «البحث عن الذات»، حيث أدت إلى أصداء واسعة وقت صدورها، ولا تزال تؤدي، كلما جاء ذكرها.

سمعت من أنيس منصور، أنه قد أزعجه، أن مبارك لم يأبه بالأمر ولم يعطه اهتماما، ولا كان في باله أن يكتب سيرته وهو في السلطة، ولا بعدها!

ولما لمح أنيس منصور تساؤلا في عيني، عن تفسيره لذلك، لم ينتظر أن أسأله وراح يقول إنه اكتشف من اللقاء أن «الحس التاريخي» ليس موجودا لدى مبارك، وأن ذلك فيه يظل على العكس تماما، من السادات أو عبد الناصر، إذا ما قارنت بينه وبينهما.

ثم زاد الأمر إيضاحا، حين أضاف فقال إن السادات - مثلا - كان يفهم تماما، معنى أن تكون على رأس السلطة في دولة بحجم ووزن مصر.. ثم، وهذا هو الأهم، كان يعرف جيدا، ماذا عليه أن يفعل في مكانه، وكيف يمكن أن يذهب إلى هذا الذي عليه أن يفعله، ليذكره به التاريخ في ما بعد.

تذكرت ما دار بيني وبين الكاتب المبدع الراحل، الذي نفتقده كثيرا، وكان الذي استدعى أجواء اللقاء معه إلى ذهني، ما قرأته في «الشرق الأوسط» أخيرا، للأستاذة هبة القدسي، وهي تعرض لبعض أوراق مفاوضات «كامب ديفيد» التي أفرجت عنها المخابرات الأميركية، وفي ذكرى مرور 35 سنة على المفاوضات الشهيرة التي دارت في عام 1978، في المنتجع الذي يحمل الاسم نفسه، في الولايات المتحدة، وكان كارتر، والسادات، وبيغن، هم أطرافها الرئيسة الثلاثة.

في الأوراق، تقول المخابرات الأميركية عن السادات، إنه كان يجب أن يذكر عنه التاريخ، لاحقا، أنه الرجل الذي استطاع أن يحسن من مستوى معيشة مواطنيه، وكان هو من جانبه يعمل من أجل هذا، طوال الوقت، عن وعي كامل بما يعمله.

وعندما طالعت هذا المعنى، في الأوراق التي ظلت سرية منذ ذلك التاريخ، وأفرجوا عنها للمرة الأولى، هذه الأيام، شعرت وكأني أسمع أنيس منصور أمامي يقول ما قاله منذ سنين.

والحقيقة، أن هذا الهدف إذا كان قد شغل السادات طوال سنواته في الحكم، وملأ عليه عقله، وحياته، فإنه كان في الأصل مرتبطا عنده بهدف أكبر، هو تحرير الأرض، لأنه لم يكن من الممكن، عمليا، تحسين مستوى معيشة الغالبية من المصريين، ما لم تتحرر أرضهم أولا، وقد كان هناك ارتباط طردي عند السادات، بين تحريرها وبين تحقيق ذلك الهدف.

أكثر من هذا، فإن السادات كان يرى أنه إذا حقق الهدف الأكبر، أي استرجاع أرضه، فسوف يكفيه هذا، وسوف يكون تحقيق الهدف الثاني، نوعا من تحصيل الحاصل، وسوف يكون في إمكانه بعدها، أن يترك الحكم طائعا ليستريح، وليكون في إمكان رجل آخر أن يواصل الطريق.

وإذا كان السادات قد حقق هدفه الأول، ولم يحقق الثاني، فلأن القدر لم يمهله، ولو أمهله، لكان قد حققه، بيديه، أو على الأقل كان قد رسم الطريق إليه، للقادم من بعده.

وليس أدل على ذلك، إلا الحوار الذي دار بينه من ناحية، وبين كثيرين بوجه عام، وزوجته السيدة جيهان السادات، بوجه خاص، من ناحية أخرى، في سبتمبر (أيلول) 1981، أي قبل اغتياله بشهر واحد.. ففي ذلك الشهر كان هو قد اعتقل 1536 مواطنا، وكانوا يتوزعون ما بين سياسيين وصحافيين، ومسؤولين سابقين، ومفكرين، وغيرهم، وغيرهم، وكان القرار مفاجأة صادمة للجميع، بمن فيهم السيدة جيهان نفسها، التي لما راحت تسأله أن يستثني من القرار، بعض الأسماء، وخصوصا بعض أساتذتها في الجامعة، كان رفضه قاطعا، وزاد بأن قال إن ابنه جمال ذاته، لو وقف بينه وبين 25 أبريل (نيسان) 1982، أي موعد إعادة آخر شبر من الأرض، فسوف لا يتردد في أن يدوس عليه!

هو كان يتصور، أن ما يشيعه هؤلاء الذين ألقي القبض عليهم، حول جدوى السلام مع إسرائيل، سوف يدفع بيغن إلى أن يتراجع عن اتفاقية السلام الموقعة في مارس (آذار) 1979، وأن بيغن يبحث عن أي عذر، ليتحلل من الاتفاقية، ولذلك، فإنه، أي السادات، سوف يحول دون تراجعه، بأي طريقة، وبأي ثمن!

هنا.. أنت أمام رجل يعرف منذ أول يوم جاء فيه إلى الكرسي، إلى آخر لحظة، ماذا يريد بالضبط، وماذا عليه أن يقدم لبلده، وماذا على التاريخ أن يكتب عنه، في مقبل الأيام والأعوام.

ولأن لله عبادا إذا أرادوا أراد، فإن السماء قد كتبت له أن يتحقق هدفه الأكبر على يديه، حتى ولو كان رحل عن دنيانا، قبل تحققه كاملا بسبعة أشهر، ليبقى أن الهدف الثاني، المرتبط بالأول، كانت مسؤولية تحقيقه تقع بكاملها على مبارك من بعده، وهو ما لم يحدث على الصورة المفترضة، لأن الحس «إياه» قد غاب عنه، وهو حس إذا احتجب عن رئيس، أدرك شيئا مما حوله، وغابت عنه أشياء!