غلطة برنامج «60 دقيقة» القاتلة!

TT

لطالما كان برنامج «60 دقيقة» علامة مشعة على أعلى مستويات العمل الصحافي المتقن. لكن البرنامج يتعرض هذه الأيام لنقد واسع مستحق، بسبب غلطة قاتلة ارتكبتها المراسلة المحترفة لارا لوغان، خلال تقرير قامت به عن الهجوم على القنصلية الأميركية في ليبيا، والذي أدى إلى مقتل السفير الأميركي كريستوفر ستيفنز. في التقرير التقت المراسلة بحارس أمن مخادع اسمه ديلان ديفيز، ادعى أنه ضرب أحد أعضاء «القاعدة» وتسلق جدارا عاليا ورأى السفير ميتا. تبين بعدها أن القصة بأكملها من نسج خياله. هو لم يكن موجودا هناك، بل كان يتشمس على الشاطئ. السبب الذي دفعه لذلك هو البحث عن النجومية والمال.

الانتقادات الموجهة لفريق البرنامج ليست لمجرد أنه أخطأ، فالجميع يرتكب الهفوات الصحافية، ولكن بسبب تصديقه بشكل غريب لرواية يتضح من سياقها «الهوليوودي» أنها مختلقة، أو مبالغ فيها على أقل تقدير. فشل البرنامج، الذي أدى إلى إيقاف لوغان، زاد مرارته هجوم المعلقين الساخرين الذين لا يفوتون فضائح كهذه. في البرنامج الكوميدي «ساترداي نايت لايف» قلد أحد الممثلين شخصية عمدة مدينة تورونتو الكندية روب فورد، الذي اعترف مؤخرا بتدخينه مادة الكوكايين. قال الممثل مجسدا دور العمدة المخمور، بعدما أرهقه الصحافي الذي يحاوره بالأسئلة: «سأذهب لبرنامج يصدق كل ما أقول!».

لا يمكن أن تسمع بهفوة البرنامج هذه، والهجوم الذي يتعرض له، من دون أن تتذكر أحد مؤسسيه، وهو الصحافي الشهير مايك والاس، الذي رحل العام الماضي عن عمر نهاز الـ93 عاما. لا يمكن تصور أن فبركة مكشوفة كهذه كان من الممكن أن تمر عليه. بل من المتوقع لو كان والاس هو من أجرى اللقاء مع ذلك الرجل المخادع أنه سيكتشف بسهولة قصته المزورة، وربما يدفعه للاعتراف والاعتذار. السبب في ذلك يعود لأسلوب والاس الصدامي والاستجوابي، الذي لا يتردد في استخدامه حتى مع أهم وأشهر الشخصيات حول العالم. شخصية تفوح منها رائحة الغرور والثقة المفرطة بالنفس، مثل شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اهتزت وارتبكت بحضرة والاس، الذي لم يتردد في سؤاله عن تهم انتشار الفساد في روسيا. في لقاء شهير مع شاه إيران تعمد والاس استفزازه بالقول إن اسم الخليج هو العربي وليس الفارسي، مما جعل الشاه يرد عليه بغضب: «ألم تذهب للمدرسة؟!». وفي حوار آخر صاخب قال والاس لزعيم تنظيم «أمة الإسلام» لويس فرخان إنه صرح مرة بعدم ثقته في الإعلام أو البيض أو اليهود، ومن ثم أكمل: «ها أنا ذا أمامك الآن»، وهو يقصد بأنه أبيض وصحافي وذو جذور يهودية. لم يغضب ذلك الصحافي الخبير من الهجوم والدفع الذي تعرض له حتى في عمر متأخر، لأنه لم يكن يأخذ الأشياء على محمل شخصي، بل على العكس. عندما يضيء وجهه وتتألق عيناه، تدرك حينها أنه بدأ في سحب الأسرار المخبأة داخل ضيفه الذي انهارت قواه.

شخصية والاس الطاغية كان لها دور كبير في التأثير على ضيوفه. لكنه أيضا صحافي شديد الاحترافية. التقى الرؤساء واللاعبين ونجوم الموسيقى والسينما وحتى القتلة في عصابات المافيا. قادر على الانتقال بسهولة وسلاسة من الأسلوب الاستجوابي إلى الدردشات الممتعة والمسلية. قد يبدو كمن يلقي محاضرات كما فعل مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ويظهر في كثير من الأوقات كالثور الذي ينطح ضيوفه بكل قوة، حتى يرضخوا ويعترفوا. لكنه أيضا يتقبل الإهانات ويعرف متى ينسحب ويتراجع. سئل مرة عن سبب نجاحه فقال إنه فضولي وملحاح ويبحث عما يريد الناس معرفته. لكنه يملك من الذكاء والخبرة الصحافية ما يجعله يرفض أن يحول العمل الصحافي إلى دراما مختلقة، بحجة أن هذا ما يمتع الناس. أحيانا تكون الصحافة درامية، ولكن يأتي ذلك في خدمة الصحافة وليس العكس. إذا كانت الدراما هي الهدف، يصبح الصحافي مهرجا. ولكن أهم مزايا والاس أنه لم يكن مسيسا أو مؤدلجا. لم يدع ميوله الفكرية أو السياسية تطغى على مهنته كصحافي، على العكس من ابنه كريس الذي لم يرث من ألق وسحر أبيه شيئا. والاس الذي كان يعاني من الكآبة، وحاول الانتحار مرة، وتزوج وطلق مرارا، له عثراته وعيوبه، لكنها عيوب الصحافي الشغوف المغفورة له. من أكثر هذه العيوب طرافة أنه قام مرة بالسطو على قصة أحد زملائه في البرنامج. لم يخالجه أي شعور بالذنب، وبدا كما لو أنه قام بأمر مشروع تماما. كان إغراء جمال القصة الصحافية أكبر من الصداقة.

لو عاد والاس للحياة فسوف يصاب، وهو المتقلب المزاج، بنوبة غضب عارمة من التشوه الذي طال سمعة البرنامج التي بناها بالعرق والدموع منذ عام 1968. ولكن على الأرجح حتى هو لن يستطيع أن يعيد للبرنامج وهجه، الذي خسره في الأعوام الأخيرة. صحيح أن الغلطة قاتلة، ولكن أعداد متابعي البرنامج كانت في تناقص مستمر خلال السنوات الأخيرة. السبب ربما أن طبيعة العالم الذي نعيشه اليوم تغيرت، ولم يعد يتقبل، بسبب السرعة والكثافة والتمدد الهائل، وضجيج وسائل التواصل الاجتماعي، سوى نسبة بسيطة من الأعمال الثقيلة أو الشخصيات المثيرة بحجم والاس أو يليم باكلي أو كريستوفر هيتشنز. لكنه صحافي واقعي ولن يبكي على الماضي. طبيعة الصحافة هي المواكبة والتغيير المستمر، لأنها مرتبطة بالواقع أكثر من مهن أخرى كثيرة. أضف إلى ذلك أن الصحافيين، على عكس العلماء والمصلحين والمفكرين، يبحثون عن إحساس التجربة اللحظية واللذة الطازجة للإنجاز المتواصل، وليس الخلود والسمعة الحسنة بعد الموت. من يبحث عن الخلود يتعلم الصبر ويتحمل الممل. لكن الصحافي ملول وغير صبور بطبيعته. هذا ما كان يدركه والاس الملول الذي فشل في التقاعد أكثر من مرة واستمر في العمل حتى النهاية. رد على فشله المتكرر في التقاعد والجلوس في البيت بالقول «أستمد سعادتي من العمل وليس العائلة. إذا توقفت، لا أعرف ماذا سأفعل بعدها!».