غولان ـ أردوغان.. هل سقطت جرة العلاقات؟

TT

عنبر جريدة «طرف» الليبرالية، وأحد أهم كتابها محمد برانسو، لا يفرغ من الوثائق والمستندات السرية المسربة القادرة على تفجير أزمات وإسقاط تحالفات، وبناء جبهات أخرى بين الأحزاب والشخصيات السياسية والعسكرية في تركيا.

الجريدة التي كانت السباقة في الحصول على مئات الأوراق الرسمية السرية التي قادت إلى الكشف عن منظمات «المطرقة» و«ار غنيكون» ومحاكمة العشرات من الرموز العسكرية، التي كانت تعد لانقلابات ضد حكومة العدالة والتنمية وسجنها، حصلت هذه المرة على ما يساهم في إشعال فتيل بارود العلاقات المتدهورة بين حكومة رجب طيب أردوغان والمفكر فتح الله غولان «الخوجا أفندي»، الأب الروحي لجماعة النورسية، بسبب مسألة مراكز تدريس الطلاب الخاصة التي توفر للجماعة الاتصال بعشرات الآلاف من الشباب الأتراك، وتشكل مصدرا ماليا مهما لتحقيق مشاريعها التجارية والتربوية.

«طرف» قدمت وثائق تقول إن حكومة أردوغان تعاونت في عام 2004 مع المؤسسة العسكرية ووقعت توصيات مجلس الأمن القومي الداعية لتصفية حركة غولان تحت شعار الحرب على الجماعات الدينية والذود عن العلمانية في تركيا. وقيادات العدالة قبلت هذا الكلام، لكنها دافعت عن نفسها بالقول إنها لم تنفذ يوما هذه التوصيات، بل على العكس هي التي فتحت الأبواب أمام توفير المناخ السياسي والاجتماعي للحركة لتنشط وتنطلق داخل تركيا وخارجها، وهي التي ساهمت في الإطاحة بمشروع محاكمة غولان وسجنه مطلب العلمانيين والأتاتوركيين المتشددين في تركيا.

غولان يقود حركة النور التي تعرف نفسها بكونها حركة إسلامية فكرية خدماتية وتصر على ابتعادها عن السياسة، لكنها دائما في قلب التوازنات مما يدفع البعض لوصفها بأنها ثالث أقوى مر كز قرار في البلاد بعد العدالة والتنمية والمؤسسة العسكرية. الجماعة هي اليوم وبسبب التوتر القائم مع أردوغان أمام امتحانها العلني الأول لاختبار وإثبات قدراتها الشعبية في التأثير على نجاح أو تراجع العدالة والتنمية، في الانتخابات المحلية المرتقبة في مارس (آذار) المقبل، إذا لم يحقق لها ما تريد تراجعه عن مشروع إعادة تنظيم مؤسساتها التعليمية الخاصة التي تقدر بالمئات.

غولان الذي أمضى 14 عاما في المهجر القسري، في الولايات المتحدة الأميركية، غاضب هذه المرة، ويبدو أنها ستتحول إلى معركة «كسر عظام» وبناء خارطة تحالفات حزبية وسياسية جديدة في تركيا تقطع الطريق، ليس فقط على حلم أردوغان بالوصول إلى قصر الرئاسة بعد عامين، بل ستقود إلى تراجع أصوات حزبه في الانتخابات المحلية والبرلمانية التي تنتظرها تركيا في العامين المقبلين. احتمالات رددناها أكثر من مرة وعادت إلى الظهور مجددا حول أن فرص احتفاظ العدالة والتنمية بالسلطة في الحقبة المقبلة باتت أكثر صعوبة، وأن عدد المنافسين يتزايد أمام التكتلات والتحالفات والتركيبات المطروحة في السر والعلن، وأن استهداف تحالفه المزمن مع حركة غولان أو تفتيت الحزب وشرذمته بدائل وخيارات مطروحة ومحتملة هي الأخرى، وأن تركيا معرضة للعودة إلى لعبة التحالفات الحزبية والحكومية التي عانت منها لسنوات.

لا أحد في الجانبين يصغي إلى أصوات قليلة تدعو للتهدئة وتحكيم العقل وتحذر من التفريط بكل الجهود التي بذلت خلال أكثر من عقد، ومن أن التباعد في الآراء والمواقف يكاد ينتقل إلى قواعدهما الشعبية مما سيطيح بكل ما جرى تشييده اجتماعيا ودستوريا وسياسيا حتى اليوم.

في العلن أسباب التباعد يتقدمها طريقة تعامل أردوغان وحكومته مع أزمة أسطول الحرية قبل ثلاثة أعوام واستهداف رئيس المخابرات التركية هاقان فيدان، وطريقة إدارة الموضوع الكردي في تركيا، ووصول مسألة الإعداد لدستور جديد إلى طريق مسدود ومحاكمات المتهمين بالانقلابات العسكرية واستراتيجيات العدالة والتنمية في التعامل مع ملفات الموضوعين السوري والمصري. لكنه في السر يرى البعض أن غولان تنبه إلى التراجع الدائم للعدالة والتنمية وحجم الأزمات التي يواجهها، من هنا هو يريد استباق الأحداث والمفاجآت من خلال فض الشراكة مع حزب أردوغان.

آخرون يرون أن سبب التباعد هو انزعاج العدالة من توسع انتشار رقعة نفوذ الحركة إلى درجة باتت تهدد موقعه ومكانته. الشراكة كان لا بد أن تنتهي لأن ما جمعهما حتى الآن لم يعد قائما، ولم يعد هذا التقارب والاتفاق مفروضا عليهما كما كانت الحالة قبل عقد مثلا، عندما قادا عبر متراس مشترك المواجهة مع العلمانيين المتشددين وصقور الأتاتوركية في الجيش والقضاء والتعليم العالي. الحركة تعرف تماما أن قرار الابتعاد عن العدالة والتنمية سيعرض الكثير من مشاريعها وإنجازاتها للتراجع، لكنها لم تتردد في إصدار قرار قطع علاقتها بأردوغان وحزبه عندما تعارضت المصالح والمواقف والسياسات، وهي فعلت ذلك أكثر من مرة في تاريخ علاقاتها السياسية من خلال دعمها لأحزاب وشخصيات متنوعة الميول والاتجاهات.

أردوغان وأعوانه أصدروا كما يبدو هم أيضا قرارهم النهائي في مغامرة الإمساك بخيوط اللعبة في تركيا، حتى ولو كان الثمن التخلي عن حركة غولان، فهل سينجح في تأمين البديل الذي يعوضه فقدان هذا الشريك الاستراتيجي المهم؟

البعض بدأ منذ الآن يقول إن البديل جاهز منذ أشهر، وهو التحالف مع حزب السلام والديمقراطية الكردي في جنوب شرقي تركيا، لكن العدالة والتنمية يرفض هذه المزاعم ويقول إن القواعد الشعبية ستكون وحدها الحكم وصاحبة القرار النهائي في حسم المسألة.

يبدو أن أردوغان لن يتراجع أو يتنازل أو يتخلى هذه المرة عن عناده في موضوع مراكز التدريس، ولن يلوح بغصن الزيتون، حتى ولو كان الثمن الابتعاد عن طاولة الحوار ومناقشة الفرص والخيارات القادرة على قطع الطريق على أي مواجهة أو صدام بين القوتين التي شربت لسنوات طويلة من نبع واحد، فلمن ستكون الغلبة؟