الكبيرة والصغيرة

TT

أميركا احتفلت بعيد الشكر قبل أيام. ومن طرائف الحياة أن سيدة إنجليزية صاحبت زوجها لزيارة أصدقاء له في أميركا، ودعيت هي وزوجها لتناول عشاء فاخر بمناسبة عيد الشكر.. وعنَّ لها أن تسأل مضيفها عن سر تسمية ذلك اليوم من كل عام «عيد الشكر»، فأجابها صاحب الدعوة قائلا: «إنهم يشكرون الله الذي وهب لهم أميركا». فقالت له بعفوية:

«أظن أن الله وهبها للهنود الحمر».

الاحتفالات في أوروبا هذه الأيام قائمة على قدم وساق استعدادا للكريسماس.. بطاقات ملونة، وأوراق منقوشة بالذهب والفضة لتغليف الهدايا، وأصناف من الطعام لا تظهر إلا في مثل هذا الوقت من السنة، وهدايا وشموع وكتب، ومفارش جميلة للطاولات، ولمبات الكهرباء تضيء كل شارع في قلب المدن.

وفي الوقت نفسه، ترزح شوارع المدن العربية وميادينها تحت ثقل الهم والظلام والخوف المقيم من قنبلة هنا وسيارة مفخخة هناك، وملايين القلوب التي هدتها الهجرة إلى دول مجاورة هربا من الحرب والدمار.

في مثل هذا الوقت من السنة تقدم بعض المحلات الأوروبية تخفيضات في الأسعار تشجيعا للناس على الإنفاق.. وجذبتني فكرة توفير بضعة جنيهات، فاتجهت إلى محل لندني تعودت أن أجد فيه ما يناسبني من الثياب.. وحين دخلت، توجهت إلى الركن الذي يعرض ما أطلب، ففوجئت بمجموعة من النساء يتكلمن في وقت واحد وبصوت عال يغتال الهدوء، خصوصا أنهن تكلمن بلغة لم أفهمها ولم أتصور أن تكون لغة أوروبية متداولة.. انتظرت بصبر جميل أن ينفض الجمع أو أن تتيح إحدى الحاضرات الفرصة لي للتجول بين المعروضات لكي أعثر علي مبتغاي. وتمكنت بصعوبة من الحصول على قطعتي ثياب، وقررت أن أقنع من الغنيمة بالتوجه إلى غرفة القياس لكي أهرب بنفسي سريعا من الضجيج الذي شبهته بصياح دجاجات داخل قفص. وما إن فرغت من قياس الثياب حتى خرجت متوجهة إلى الخزنة لدفع ثمنها، فإذا بجمع الدجاجات قد انتقل إلى هناك واستأنف مسلسل الضجيج ومساومة البائع على الأسعار. ولم أجد مفرا من أن أنتحي جانبا انتظارا لأمل دفع الفاتورة والخروج من دائرة التلوث السمعي الذي فرضته علي أولئك النسوة. كانت إحداهن تحمل رضيعا، فابتسمت للرضيع وأثنيت عليه لأمه الواقفة بالقرب مني، فبادرتني قائلة إنها لا تتحدث الإنجليزية، ثم قالت بفخر شديد: «نحن من إسرائيل». وسألتني من أي دولة أنحدر، فقلت لها إنني من مصر.

بانت على وجهها حيرة وسألتني: أين تكون مصر؟

كادت المفارقة تصرعني، ولكن أسعفتني البديهة فقلت لها إن مصر دولة «صغيرة» مجاورة لإسرائيل.

في الطريق إلى محطة المترو تردد في جنبات رأسي سؤال السيدة الإسرائيلية على إيقاع كل خطوة أخطوها: أين تكون مصر؟ هل مصر اليوم هي مصر التي بنت حضارة على ضفاف النيل منذ آلاف السنين؟ في سورة «يوسف» نتعلم أن المصريين استخدموا السكين لتقطيع الفاكهة وتقشيرها، بينما كان الأوروبيون يهيمون في الغابات ويحتمون بجلود الحيوانات ويتخاطفون اللحم على أسنة الرماح.. وحسب علمي الضئيل، لم يكن ورد ذكر لإسرائيل في كتب التاريخ.

أَوَلَم يسبق المصريون شعوب الأرض كافة في استخدام الطاقة المائية والطاقة الهوائية لنقل البضائع ومواد البناء من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال لتشمل كل أنحاء مصر الفرعونية فتستقر التجمعات السكانية وتقتسم خيرات الأرض؟ كان تدفق مياه النيل في وسط أفريقيا كفيلا بطاقة الدفع من الجنوب إلى الشمال، وكانت الرياح الشمالية التي تهب على سواحل الأبيض المتوسط طوال العام تدفع المراكب الشراعية من الشمال إلى الجنوب.

أَوَلَم يهزم المصريون الهكسوس؟

ربما أصبح المصريون الجدد بحاجة إلى فلاح فصيح يبعث حيا ليعلم الفرعون درسا في العدل والحرية، وربما يكون واحد من لجنة الخمسين العاكفة حاليا على كتابة الدستور هو الفلاح الفصيح. وقد تعيد مصر أمجاد استخدام الطاقة المائية والهوائية المجانية لخدمة الإنسان ولنقل البضائع والمحاصيل منا وإلينا، بدلا من اقتراض النقود لشرائها من الخارج.

أتفاءل كثيرا كلما راودتني فكرة طرد الهكسوس.