بين النمر والثعلب

TT

في حرب السبعينية بين فرنسا وألمانيا (1870)، خسرت فرنسا منطقة الألزاس واللورين. وأذعن كليمنصو لخسارتها، ولكنه أقسم بألا يستقر به حال حتى يعيدها ثانية لفرنسا. ونفذ قسمه في الحرب العظمى وانتقم من الألمان واستعاد الألزاس واللورين. ولا عجب أن وصفوه بالنمر. ولكنه كان من الشخصيات الظريفة التي استهوتني. لقبه آخرون بالثعلب آناً وبالشيطان آناً آخر. جرت مناقشة حادة في المجلس بينه وبين النائب جوريس، الذي كثيرا ما ادعى لنفسه الطهر والإخلاص. فصاح به كليمنصو: «اسمع، أنت لست بملاك»، فرد عليه جوريس: «وأنت أيضا لست بالشيطان!». «وما أدراك بذلك؟» رد عليه كليمنصو.

وكغيره من ساسة الغرب، كان عظيم الاهتمام بالفنون والموسيقى والأدب، بشكل يضاهي اهتمام البعض من ساستنا بالفلوس. حدث في عهده أن أسندت بولندا وزارة الخارجية إلى الموسيقار إينياس يان بلديرفسكي، عازف البيانو الشهير. التقاه كليمنصو في مؤتمر الصلح بباريس، فبادره بالسؤال: هل أنت يا مسيو بلديرفسكي ذلك العازف الموسيقي الشهير يان بلديرفسكي بالذات؟ فأجابه بالإيجاب. عاد فسأله: «وأنت الآن وزير الخارجية؟». «نعم أنا وزير خارجية بولندا». فقطب كليمنصو حاجبيه وتمتم بهدوء: «يا لهذا السقوط!».

وتذكرني هذه الحكاية بزواجي. ذكرت زوجتي أن من المعتاد لأسرتها أن تنشر خبر زواج بناتهم في الصحيفة المحلية. سألتني: «وكيف سيصفونك؟». قلت لها بخلفيتي العربية قولي: «محام!». نظرت في وجهي بازدراء وعجب. «محام! ولكنك فنان أيضا. لماذا لا تقول إنك فنان؟ هكذا سنصفك في الجريدة». ثم أضافت فقالت: «هناك ألوف من المحامين في كل بلد. وأي واحد يستطيع أن يدخل مدرسة قانون ويصبح محاميا. ولكن، كم فنانا يوجد في بلدك؟ كم يستطيعون أن يكونوا فنانين؟».

احتقرت نفسي وموقفي وقلت: «آه! الشرق شرق والغرب غرب. حتى أنا أركع للمنصب!».

وفي مؤتمر الصلح ذلك، التقى الثعلب الفرنسي الثعلب البريطاني، لويد جورج، رئيس الحكومة البريطانية. لاحظ هذا كيف أن غريمه العجوز الفرنسي ما زال يصول ويجول. فكتب في مذكراته: «كليمنصو مخلوق عجيب. ففي كل سنة نراه يصغر عمره بسنة، ولكن مخالبه تزداد مخلبا». ولا عجب أن يوصي بدفنه واقفا على قدميه!

وهذا شيء جدير بالالتفات. يطيب للغربيين أن ينعتوا ساستهم بلقب الثعلب. والنعت عند كليمنصو صفة خطيرة. فعندما كان يعمل كصاحب جريدة، جريدة «العدالة» التي كان يرأس تحريرها، جمع المحررين وألقى عليهم محاضرة فقال: «الكتابة عملية سهلة جدا. فعل وفاعل ونعت». قال ذلك ثم أطرق مفكرا لهنيهة وأضاف قائلا: «ولكن، عندما ترغبون في استعمال النعت، فعليكم أن تستشيروني أولا!».

وهذه نقطة طريفة. فأتذكر أن الإنجليز أيضا كانوا يحذرونني من استعمال النعت. ويعد ذكر أكثر من نعت واحد، مثلا «الزعيم الأوحد العظيم والقائد المحنك» من أسوأ العيوب في الكتابة.