الجيش المصري في الدستور الجديد

TT

حامي الوطيس هو ذلك الجدل الذي حظي به وضع الجيش في مسودة الدستور الجديد، فلقد ظلت المواد المتعلقة بإمكانية محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، وتعيين أو عزل وزير الدفاع مثار خلاف فج حتى الساعات الأخيرة التي سبقت تسليم مسودة الدستور لرئيس الجمهورية المؤقت.

وفي وسع المتتبع لتناول الدساتير أو الإعلانات الدستورية المصرية المتعاقبة بدءا بدستور عام 1882 وحتى دستور 2013، لدور القوات المسلحة وموقعها في الحياة العامة، أن يهتدي إلى مفارقات شتى لافتة في هذا المضمار:

أولاها، أن القوات المسلحة المصرية، ورغم محورية دورها وثقل حضورها في الحياة العامة، قد ظلت، إلى حد كبير، بمثابة الغائب الحاضر في جل هذه الدساتير والإعلانات الدستورية. وبينما لم يحظ ملف العلاقات المدنية العسكرية عموما، والنص المسهب أو التناول المفصل لدور الجيش في الدستور تحديدا، بنصيب وافر من النقاش المتصل أو التناول الجاد فيما مضى، كان وضع هذه الملفات الشائكة على بساط البحث وفي أروقة النقاش المجتمعي هذه الأيام من أبرز تجليات ثورة يناير 2011. أما ثانيتها، فتتجلى في الاقتضاب، حيث يجوز الادعاء بأن السمت العام في الدساتير والإعلانات الدستورية التي شهدتها مصر طوال تاريخها السياسي الحديث، كان عدم التعرض المفصل للجيش ودوره في الحياة المدنية، لا سيما السياسية منها، بأية صيغة. وحينما حاولت بعض الدساتير لاحقا الاقتراب من هذا التابو، ألمت بمحاولاتها تلك حالة كانت إلى الثبات على صيغة أو نص محدد ومقتضب في آن أقرب، إذ تمحورت غالبية الصيغ حول نص مفاده: أن «الدولة وحدها هي من ينشئ القوات المسلحة‏، ‏التي هي ملك للشعب وتختص بحماية البلاد وسلامة أراضيها وأمنها، ولا يجوز لأية هيئة أو جماعة إنشاء تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية، والدفاع عن الوطن وأرضه واجب مقدس، والتجنيد إجباري وفقاً للقانون».

وتتمثل ثالثتها في تعاظم دور سياسات الرؤساء السابقين وتصريحاتهم في تحديد موقع القوات المسلحة في الحياة العامة على حساب النصوص الدستورية الصريحة ذات الصلة. ففي حين لم تسهب الدساتير في تناول هذا الأمر، عمد الرؤساء ذوو الخلفيات العسكرية كعبد الناصر والسادات ومبارك، بل وحتى الرئيس المدني الوحيد محمد مرسي، والذين تمتعوا جميعا بصلاحيات وسلطات واسعة، سواء بموجب الدساتير أو الإعلانات الدستورية أو بجريرة إرث الفرعونية السياسية، إلى منح الجيش أدوارا مهمة في الحياة المدنية والسياسية صارت بدورها تقليدا أو عرفا له قوة القانون أو النص الدستوري. فلطالما دأب أولئك الرؤساء على إبراز خصوصية وضع الجيش وأهمية دوره في النظام السياسي والدولة ككل وإضفاء شرعية المنح والاعتراف على هذا الدور كبديل عن الشرعية الدستورية أو القانونية، سواء عبر اهتمامهم الواضح بالجيش ومنحه امتيازات عديدة، لا يمكن المساس بها أو حتى الجدل بشأنها، أو من خلال التأكيد في خطابهم السياسي الرسمي على وجود دور ما للجيش في العملية السياسية.

فبينما أعلن عبد الناصر في إحدى خطبه مطلع ستينات القرن الماضي أن «الجيش قوة داخل السياسة الوطنية» وأنه «حامي الاشتراكية»، أكد السادات من بعده في خطاب له أمام مجلس الشعب عام 1976 بأن «الجيش حامي الدستور والشرعية الدستورية»، ثم جاء مبارك لاحقا ليصرح بأن «الجيش حامي الديمقراطية». وعقب ثورة يناير 2011، لم يتورع المشير طنطاوي عن التأكيد على أن وضع الجيش في الدستور الجديد لن يختلف عن وضعه في الدساتير السابقة، وهو ما تزامن مع تصريحات أخرى لأعضاء بالمجلس العسكري تؤكد أنه لا مساس بالوضع الخاص للقوات المسلحة في النظام السياسي الجديد. وفي ثنايا كلمة له بأحد المواقع العسكرية في الربيع الماضي وقبل أشهر قلائل من الإطاحة به، طمأن الرئيس السابق محمد مرسي الجيش على اقتصاده وخصوصية وضعه في البلاد، متوخيا بذلك تحييد قادته وكسب تأييدهم له في خضم الاستقطاب السياسي الحاد والصراع السياسي الشرس مع القوى المدنية العلمانية والثورية المناهضة له ولجماعته، الأمر الذي عزز من مكانة القوات المسلحة كشريك مهم أو طرف مؤثر في المعادلة السياسية ولو من الباطن. وانطلاقا مما ذكر آنفا، يمكن فهم الجدل بشأن وضع الجيش في الدستور المصري الجديد في ضوء اعتبارات عدة؛ أولها، الأجواء السلبية التي تخيم على عملية وضع التعديلات الدستورية على دستور عام 2012 بموجب خارطة المستقبل، من غياب القدرة على التوافق، مرورا بتفشي عدم الثقة واستشراء التشكيك في النوايا، إلى رغبة كل فصيل سياسي أو فئة اجتماعية في انتزاع الحصانات والمغانم، والتي ما برحت تسمم المشهد السياسي المصري قاطبة منذ عقود خلت ثم ازدادت تأثيراتها مع اندلاع الحراك الثوري الهادر في يناير من عام 2011. وثانيها، الدور المحوري الذي لعبه الجيش في ثورتي يناير2011 ويونيو 2013، والذي حرك مخاوف تيارات وأطياف سياسية عديدة من شبح عودة هيمنة النخب ذات الخلفيات العسكرية على السلطة والحكم في البلاد على نحو ينذر بإعادة إنتاج نظام يوليو مجددا، وهي المخاوف التي هرعت قوى وجماعات مناهضة للجيش وللموجة الثورية التصحيحية التي شهدتها البلاد في نهاية يونيو الماضي إلى استثمارها لتنشيط مساعيها المشبوهة لتشويه الدور الوطني للجيش المصري وتأليب دوائر إقليمية ودولية عديدة ضد قياداته عبر الترويج لادعاءات مفادها أن ما قام به الجيش يوم الثالث من يوليو الماضي لم يكن سوى انقلاب عسكري مكتمل الأركان.

وثالثها، تصاعد احتمالات وجود رئيس مدني على رأس السلطة في البلاد بعد هيمنة شخصيات عسكرية على قمة السلطة طيلة عقود ستة خلت. فما كان من إلحاح شرائح واسعة من القوى المدنية والثورية في ضرورة تحديد وتقنين وضع القوات المسلحة ودورها في الحياة المدنية عبر نصوص واضحة ومفصلة في الدستور الجديد، إلا أن غذى هواجس قيادات الجيش بشأن خصوصية وضعه ومرونة تحركاته في ظل المرحلة الحرجة التي تعصف بالبلاد منذ يناير 2011 وما تمخضت عنه من تحديات وتهديدات للأمن القومي.

وبناء عليه، يمكن القول إن الجدل المحتدم هذه الأيام بشأن وضع الجيش في الدستور الجديد إنما هو جدل مرحلي، شأنه في ذلك شأن غالبية المواد والنصوص الدستورية التي تناولت هذا الوضع والتي تتسم بالطابع الانتقالي بحيث تطبق لمدى زمني محدد بغية التصدي لتحديات وطنية وتهديدات أمنية قائمة على أن تعاد صياغتها لاحقا بمجرد استقرار الأوضاع واستتباب العملية الديمقراطية، على غرار ما هو متبع في دساتير أعرق الديمقراطيات.

وربما لا يبدو هذا الطرح مجانبا للصواب مع تفهم غالبية المصريين لمدى أهمية دور جيشهم في هذه المرحلة الحساسة من ثورتهم، وثقتهم في وطنية رجالاته وزهد قياداته في السلطة، علاوة على نجاح لجنة الخمسين المعنية بوضع التعديلات الدستورية في التوافق حول كافة مواد الجيش بالدستور الجديد، في الوقت الذي لم يتورع أعضاؤها عن إحالة مواد أشد تعقيدا تتصل بالانتخابات وتمثيل بعض الفئات إلى رئيس الجمهورية لحسمها بعد أن استعصت على التوافق.

* رئيس تحرير مجلة «الديمقراطية» الصادرة عن مؤسسة الأهرام