دستور وفلسفة

TT

لا مفر من الحصول على الحكمة من منابعها الأصلية، من الشارع، تماما كما كان يفعل سقراط. كان سقراط أعظم فلاسفة التاريخ ينزل إلى الأسواق موجها أسئلته للناس طارحا أفكاره على الجميع. لماذا لا أفعل ذلك أنا أيضا؟

في الصباح الباكر، راسما على وجهي ابتسامة فلسفية جادة وحكيمة، اقتربت من مجموعة من البشر يقفون على محطة الأتوبيس، وإلى أقرب الواقفين بدأت بالسؤال: ما رأيك في الدستور؟

نظر إليّ الرجل في خوف ودهشة ثم ابتعد عدة خطوات متجاهلا السؤال ومتجاهلا وجودي. لا بأس.. هو رجل يفتقر إلى الحس الفلسفي الكافي للإجابة عن السؤال.

اقتربت من ريفي تمتلئ ملامحه بالطيبة، قلت له في تهذيب: من فضلك يا عم.. ما رأيك في الدستور؟

أجاب الرجل في لطف: عفوا يا ابني.. أنا غريب، أنا من المنصورة.

المرأة هي أقرب المخلوقات إلى الحكمة، اقتربت من سيدة في نحو الأربعين من عمرها تتسم ببعض الجمال.

- سيدتي.. ما رأيك في الدستور؟

- اصطبح يا أفندي على الصبح..

تحولت السيدة في لحظة إلى وحش كاسر، أسعدني ذلك، ليس هناك شيء في الوجود قادر على ترويض الوحوش مثل الفلسفة، هذه هي ضالتي المنشودة، عليّ أن أواصل معها بنفس المنهج السقراطي القديم.

- ماذا تقصدين يا سيدتي بفعل الأمر اصطبح؟ من الواضح أنه فعل أمر جديد ومنحوت وذلك بعد أن أضفت حرف الطاء للفعل الأصلي، أصبح.. ومع ذلك فأنا إنسان، والإنسان نفسه لا يصبح بمعنى أن يكون هو نفسه الصباح.. فماذا تقصدين يا سيدتي عندما تطلبين مني أن أصطبح على الصبح.. لماذا لم تقولي أصبح.. لماذا أضفت حرف الطاء؟

صرخت السيدة، لا بأس البشر يصرخون دائما عندما يفشلون في الوصول للإجابات الصحيحة: ابعد عني وروح في ستين داهية..

- إنني مقدر يا سيدتي لطلبك بالابتعاد عنك ومقدر لكل دوافعه، فالبشر عادة يكرهون بشدة هؤلاء الذين يدفعونهم إلى التفكير.. ولكن لماذا حددت الجهة التي أذهب إليها وهي ستين داهية؟.. لماذا الرقم ستون؟ هل لهذا الرقم دلالة في تاريخنا القديم أو المعاصر..

بدأت الفلسفة تؤتي ثمارها، فقد أخذ الناس في التجمع حولنا، وبدأت التعليقات من الجميع..

- أفندي قليل الأدب.. أنا مراقبه من الأول.. بيعاكسها بقى له ساعة.. إيه اللي حصل للأخلاق في البلد دي؟

- قليل الأدب.. قليل الحيا.. عاوز حد يربيه..

لم أغضب من التعليق، لا أستطيع أن أرصد بالضبط تلك اللحظة التي انتقلت فيها الجماهير من التعليقات الفلسفية الهادئة المشحونة بالغضب الإنساني الشرعي والطبيعي إلى الفعل الواضح المحسوس.

في اللحظات القليلة التي سبقت الإغماء العميق الذي رحت فيه، استطعت بصعوبة التعرف على ما يحدث، كانوا جميعا يضربونني ويصرخون في سعادة غامرة، الشارع كله ثم كل الشوارع، كل سكان العاصمة، ثم سكان كل العواصم، والمدن الصغيرة، والقرى، والنجوع، والمواني، وسكان البادية، لم يكتفوا بالقدوم من الحاضر، جاء أناس من الماضي لينعموا بضربي، كما جاء أناس من المستقبل.. يا إلهي، كيف تحملت وأتحمل كل هذا الضرب؟