التوازن بين الثورة والنظام

TT

دخل المشهد المصري مساحات مختلفة من التعقيد السياسي الذي تجاوز «نحن في مواجهة الإخوان المسلمين»، إلى سلسلة من الدوائر الفرعية من المواجهات التي تعكس عدم الاتفاق على أسس بناء الدولة الجديدة خاصة بين القوى المحسوبة على ثورة 30 يونيو (حزيران)، والتي قد تصب في النهاية في مصلحة الإخوان المسلمين أنفسهم.

دعنا نوصّف المشهد المصري بالاستناد إلى توازنات القوى في السنوات الماضية. هناك ثلاث قوى أساسية: الدولة المصرية بأجهزتها المدنية والعسكرية، والتيارات الإسلامية بتفرعاتها، وأخيرا التيارات التي تحمل مسحة علمانية يسارية وليبرالية على تنوعها. ثورة 25 يناير (كانون الثاني) كانت في جانبها الأكبر تحالفا بين قوى سياسية وشبابية متنوعة المشارب، حملت توافقا بين إسلاميين وعلمانيين على إسقاط نظام مبارك وأجهزته، ووقف قطاع مهم من الدولة المصرية – أي المؤسسة العسكرية - إلى جانب مطالب المصريين في التغيير السياسي. حدث التغيير، وأعقبه انفراط عقد القوى السياسية التي وقفت ضد نظام مبارك. في ثورة 30 يونيو تغيرت أنماط التحالفات، حيث وقفت الدولة المصرية بكامل مؤسساتها إلى جانب تيارات يسارية وليبرالية وشبابية لإنهاء حكم الإخوان المسلمين وسط تأييد شعبي جارف. وكما دب الخلاف بين حلفاء 25 يناير من إسلاميين وعلمانيين بعد أقل من شهر من إسقاط نظام مبارك، يبدو أن هناك شروخا تتعمق تدريجيا في التحالف العريض الذي أسقط الإخوان المسلمين بين قطاع عريض محسوب على الدولة المصرية والنخبة السياسية التي سبقت ثورة 25 يناير من جهة، والفصائل اليسارية والليبرالية والقوى الشبابية التي تحمل لواء استمرارية ثورة 25 يناير. وشكلت ظهيرا مهما في إقصاء حكم الإخوان المسلمين من جهة ثانية. هذه الخلافات عبرت عن نفسها في التباين حول «قانون التظاهر»، وما ترتب عليه من تداعيات، واستمرار القصف الإعلامي المكثف على حكومة حازم الببلاوي، والغمز واللمز في الإعلام الذي يصل إلى اعتبار ثورة 25 يناير مؤامرة، ورمي نخبتها وحركاتها الشبابية بتهم العمالة. المسألة باختصار أن هناك بعض القوى المحسوبة على نظام مبارك سابقا، وأجهزة الدولة التي لعبت دورا مهما في إنهاء حكم الإخوان المسلمين، يرون أن أفضل سبيل لإعادة بناء الدولة هي العودة إلى طبيعة العلاقات السياسية التي حكمت نظام مبارك، وكفى عبثا بمقدرات الدولة، مما يستدعي تقليم أظافر الحركات الشبابية الثورية التي تعلن باستمرار تحديها لسلطة الدولة. وهناك فريق آخر، غالبيته محسوبة على ثورة 25 يناير، ترى خطورة في استعادة نموذج «دولة مبارك»، حتى لو في نسخة معدلة، لأن الناس ضجت به، وثارت عليه، ومن الممكن الثورة على أي شبيه له في المستقبل القريب أو البعيد. الأفضل هو تأسيس المجتمع الديمقراطي الذي يحمل الحرية في التنظيم، حرية الرأي والتعبير، والتنافس الحر في شغل المواقع العامة. هناك أصوات احتجاجية في المربع العلماني تتحدث عن هوامش الديمقراطية الغائبة، وتحذر من مغبة استعادة نموذج الدولة الأمنية، حتى في ظل المخاطر الإرهابية التي تحيط بالمجتمع، على خلفية أن الحل ينبغي أن يكون سياسيا وليس أمنيا.

الأحداث التي أعقبت صدور قانون التظاهر، ولا سيما ما حدث في محيط مجلس الشورى من استخدام مفرط للقوة من جانب قوات الأمن في مواجهة عناصر شبابية محتجة، أعطى قوة دفع للعناصر الليبرالية واليسارية المحتجة على المشهد، ووضع أقرانهم في الدوائر الحكومية، والهيئات الحقوقية والاستشارية على المستوى القومي في مأزق الاعتراض على حكومة هي في الأساس محسوبة عليهم. وفي الظل يقف الإخوان المسلمون متفرجين، وهم على يقين أن نتائج هذه المواجهة تصب في النهاية في مصلحتهم، وبدأت البشائر تلوح؛ إذ صرح صفوت عبد الغني، أحد الإسلاميين المتحالفين مع الإخوان المسلمين، بأنه ينبغي تكوين جبهة من الإسلاميين والثوريين معا لبناء نظام ديمقراطي لا يقصي أحدا. ومن اللافت أن الإخوان المسلمين، بوصفها جماعة منظمة وقديمة في السياسة، تعرف كيف تستفيد من الأحداث السلبية والإيجابية معا، إن لم تكن مشاركة بالفعل في صنع كليهما. فقد استطاعت توظيف أحداث شارع محمد محمود الشهيرة في قلب القاهرة إبان الانتخابات البرلمانية عام 2011م، وما سبقها وتلاها من مواجهات بين عناصر محسوبة على الثورة مع الحكومة في تقليص وتهميش تدريجي للمجلس العسكري إلى أن أخرجته من المشهد السياسي مرحليا عقب تولي محمد مرسي رئاسة البلاد في 30 يونيو 2012. الآن يرقب الإخوان المسلمون نفس المشهد للإفادة منه وهو تصدع تحالف 30 يونيو تدريجيا. السيناريو يبدو أنه معاد مكرر يتمثل في إحياء الثارات الكامنة بين الشرطة من جانب والقوى الشبابية الثورية والاحتجاجية من جانب آخر، والعمل على زيادة الشروخ بينهما، ثم توالي أحداث العنف، وسقوط ضحايا، يرافق ذلك ضغط من الإخوان المسلمين على مفاصل الحياة، واحتجاج عمالي، وتصاعد المطالب الفئوية السياسية والاقتصادية، ووقوع بعض الأحداث الطائفية خاصة في الصعيد، كل ذلك في ظل تراجع قدرات الحكومة على بث روح الاستبشار والأمل في المستقبل في نفوس المصريين، قد يؤدي إلى اختمار مناخ ثوري جديد يسمح للإخوان المسلمين خاصة والتيار الإسلامي عامة بالنفاذ إلى الساحة السياسية مرة أخرى.

الهندسة السياسية تبدو مهمة في هذه المرحلة للخروج بشكل جديد يحفظ التوازن بين القانون والديمقراطية.. الحرية والنظام، وهي مسألة تبدو ممكنة إذا ما تخلصت أطراف العملية السياسية الآن من ثارات الماضي، وجراح السنوات الثلاث الماضية. «كفى ثورة» شعار لن يقبله الثوريون، و«كفى نظام» شعار لن تقبله الدولة المصرية، المطلوب مساحة وسط.

* مدير مركز دراسات التنمية بمكتبة الإسكندرية