رحلة إلى سوق الصين العظيم

TT

في رحلته إلى الصين هذا الأسبوع، اصطحب رئيس الوزراء ديفيد كاميرون عشرات من رجال الأعمال والبنوك وخبراء الاقتصاد والمال، بجانب المجموعة الصحافية المصاحبة.

لم يحاول الزعيم البريطاني، أو مستشاروه، إخفاء هدف الزيارة: رئيس حكومة جلالة الملكة مثل البائع المتجول (الذي كان يمر في شوارع الإسكندرية أيام زمان تغازل ألوان بضاعته العيون الأنثوية كي تدلي الأيدي سلال الشراء من الشرفات) يصيح بأعلى صوته في سوق الصين العظيم: «اشتروا بضاعة صنع بريطانيا.. أرسلوا أولادكم للتعلم في جامعتنا. أسواقنا وعقاراتنا ومصانعنا.. تفضلوا لتملكها بلا قيود».

وبدلا من الحساسية لرسومات الكاريكاتير بعربة البضاعة ونكات المونولوجستات الاستهزائية اعتبرها المستر كاميرون شهادة الوطنية.

فالوطنية ليست الخطب الرنانة في الحشود بشجب الأعداء والتهديد بدك مدائنهم، بل بخطوات عملية تجذب الاستثمارات لتمويل المشاريع وإغراء الأثرياء الأجانب بشراء العقارات البريطانية والإقامة فيها، بإعفاءات ضريبية تسيل لعابهم؛ وتسهيل إجراءات تملك الأصول الثابتة.

قمة الوطنية يراها الزعيم ووزراؤه الفعل قبل القول، عندما تبقى القروش في جيب المواطن يوما زيادة في آخر الشهر؛ والضرائب التي يستقطعها منه قلم الحسابات تتناقص مع مرور الأشهر.

الـ«بي بي سي»، وبقية منابر اليسار، سخرت من اجتهاد المستر كاميرون في تعلم بضع عبارات تحية باللغة الصينية (المندرين)، حيث قال في حفل عشاء استقبله فيه نظيره الصيني وحضره 500 من المستثمرين ورجال الأعمال والمال والصناعة الصينيون: «طاب مساؤكم، نحن شركاء متعاونون معا من أجل الرخاء». وأمضى يومين يلعب الـ«بينغ بونغ» مع أطفال المدارس، وساعد فصول تعلم الإنجليزية، وتناول الشاي مع ربات البيوت في بكين.

صاحب السخرية في الـ«بي بي سي» الهجوم المعتاد من معلقي اليسار، لأن رئيس حكومة بريطانيا لم يُدِن مضيفيه علنا لسوء سجلهم في حقوق الإنسان، واحتلالهم لهضبة التيبيت (الصين الشعبية لا تعترف بالتيبيت كبلد مستقل بل أحد أقاليم البلاد المتعددة العرقية).

المستشارة السياسية لرئيس الوزراء شرحت للصحافيين أنه لا يجوز لضيف نزل على بلد له تاريخ وحضارة عظيمة كالصين ألا يحترم خصوصيات المضيف ونظامه السياسي والقضائي. كما أنه ملتزم بخط وزارة الخارجية الذي لم يتغير لأربعة قرون: أولوية استمرارية العلاقة الإيجابية المرتبطة (positive engagement) مع بلدان العالم، خاصة التي لا يزال أمامها شوط طويل في تحسين سجل حقوق الإنسان؛ فغزل خيوط شبكة من المصالح النفعية للطرفين يعطي الدبلوماسيين البريطانيين فرصة أكبر وأقوى تأثيرا في مناقشة إيجابية مع نظرائهم في هذه البلدان والتوصل لنتائج، قد لا تكون مثالية، لكنها عملية (أذكر قبل سنوات إبلاغي سفير بريطانيا في عاصمة شرق أوسطية التدخل احتجاجا لأن الحكومة العربية اعتقلت صحافيا معارضا. توسل السفير لنا ألا ننشر، أو نكتفي بخبر مقتضب محايد بلا تعليقات إدانة، قائلا: «أليس من الأفضل تقديم التماس لرئيس الدولة للإفراج عن الزميل لأسباب إنسانية، بدلا من إهانة نظامهم القضائي في صحافة لندن»؟ وبالفعل أدى توسل السفير في جلسة خاصة للإفراج عن الصحافي بعد ثلاثة أسابيع).

النقطة الأخرى التي يثيرها المستشارون في وزارتي المالية، والصناعة والتجارة، في لندن؛ أن النزول عند رغبة اليسار بإثارة سجل حقوق الإنسان علنا لن يغضب المسؤولين الصينيين فحسب، بل سيؤثر سلبيا على الاقتصاد، فالمنتجات التي تحاول بريطانيا ترويجها تصنعها أميركا واليابان وبلدان أوروبية منافسة، وأسواق وول ستريت وباريس فيها بنوك تنافس لندن؛ والأفضل أن تأتي الاستثمارات هنا بدلا من الذهاب إلى أوروبا وأميركا.

والميزان التجاري بين المملكة المتحدة والصين يختل بـ17.5 مليار جنيه (28.5 مليار دولار) لجانب الأخيرة، حيث تصدر الصين كل شيء بأسعار «برخص التراب»، ومن النادر أن تستورد شيئا يذكر.

ولذا اصطحب رئيس الحكومة معه ممثلي صناعات تحتاجها الصين في مجالات الإلكترونيات المتقدمة، وتكنولوجيا الطب والجراحة. وممثلين من الجامعات الكبرى لجذب الطلاب للدراسة في جامعات بريطانيا.

ما عدا ذلك تعامل المستر كاميرون بواقعية، مقتفيا أثر رحلة سابقة للصين قام بها صديقاه وزميلا دراسته، جورج أوزبورن، وهو وزير المالية (ثاني أقوى منصب حكومي بعد رئيس الوزراء)، وعمدة لندن بوريس جونسون. عمدة لندن (ألقى عبارات أطول باللغة الصينية وقصيدة شعر مديح) شرح للصينيين أن لندن مفتوحة 24 ساعة في اليوم طوال الأسبوع للاستثمارات الصينية.. ودعاهم لشراء العقارات والاستثمار في شركات المواصلات وبناء الطرق ومطار جديد يريد بناءه، وخط سكة حديد يمر تحت لندن في أطول نفق في تاريخ البلاد من الغرب إلى موانئ بحر الشمال شرقا. أما وزير المالية فاتفق معهم على استثمار وتملك بناء محطات لتوليد الكهرباء بالطاقة الذرية.

عملا بالمثل الإنجليزي القديم «إذا لم تستطع أن تغلبهم فانضم إليهم»، دعا المستر كاميرون الصينيين لإنفاق بضعة مليارات في تمويل (وامتلاك) محطات جديدة لتوليد الطاقة، وخط إكسبريس سكة حديد من المقرر أن يربط لندن بمقاطعات غرب وسط الشمال الصناعية يتكلف قرابة 50 مليار جنيه (88 مليار دولار).

والاقتصاديون والماليون والساسة، وصناع الرأي العام في الصحافة، لا يرون أي عيب (بل على العكس يدعون للتوسع في هذه السياسة) في تملك الأجانب للاستثمارات والأصول والعقارات البريطانية.

أندية كرة القدم الاحترافية الكبرى التي تدر المليارات يمتلك معظمها العرب والروس. أما معظم قصور وعقارات ومباني لندن التاريخية فيمتلك العرب معظمها، يليهم الروس، فالأميركيون. كبرى شركات الطاقة يمتلكها الفرنسيون والكنديون والعرب والألمان. ثلاثة أرباع مطارات بريطانيا تمتلكها شركات إسبانية وكندية وأميركية. أكبر وأحدث موانئ إنجلترا تمتلكه شركة «موانئ دبي».

الصينيون واليابانيون والأميركيون يمتلكون كبرى شركات صناعات السيارات الإنجليزية؛ أكبر أربع من شركات التليفون الجوال الثماني يمتلكها الفرنسيون والألمان والعرب والكنديون، بل شركات صناعة الطائرات الحربية وسفن الأسطول لبريطانيا العظمى يمتلك أغلبية أسهمها أجانب غير بريطانيين، كذلك شركات البترول العملاقة المرتبطة تاريخيا بالإنجليز كـ«شل» مثلا. وترى حكومة كاميرون المحافظة أن قمة الوطنية هي في عرض كل بضاعة وصناعات وعقارات البلاد في أفخم وأجمل صورة في فاترينة السوق العالمي (خاصة الصين لوجود فائض مالي بتريليونات الدولارات) لشرائها.

الفلسفة بسيطة: أموال الأجانب لشراء العقارات والصناعات تتيح فرصة سد العجز المالي، وتخفيض الضرائب، وتوجيه دخل ما يباع لمشاريع البنية التحتية والصحة والتعليم. الإعفاء من الضرائب يقابله توفير مئات الآلاف من الوظائف.

قارن ذلك بـ«وطنية» الثوار المصريين بإصرارهم على منع الدستور الجديد بيع الاستثمارات والعقارات والأراضي لغير المصريين!!