وداعا.. مانديلا!

TT

بوفاة الزعيم الأفريقي الكبير نيلسون مانديلا، الذي ودع عالمنا أخيرا، يكون العالم بأسره فقد أهم ساسته وزعمائه على مدار القرن الماضي، أو على أكثر التقديرات «تحفظا» في النصف الثاني منه. هذا المناضل الحقوقي الاستثنائي الذي واجه نظاما عنصريا بغيضا بجرأة واحترام وبمبادئ اللاعنف التي تأثر بها من تعاليم المناضل الهندي الكبير غاندي والمناضل الحقوقي الأميركي الكبير مارتن لوثر كينغ.

حكم على مانديلا وهو في مطلع الأربعينات من عمره بالسجن. قضى 27 عاما بالتمام والكمال، منها 18 سنة في زنزانة فريدة صغيرة في وسط جزيرة بالبحر، تحت قيود وشروط أشبه بالمستحيلة. كان لا يسمح لأحد بأن يزوره إلا مرة واحدة في السنة، وذلك لمدة ثلاثين دقيقة بالتحديد. وكان لا يسمح له بكتابة أي خطاب ليرسل بالبريد إلا خطابا واحدا كل ستة أشهر، وغير ذلك من الشروط التعجيزية. أدرك نيلسون مانديلا أن كل هذا الجو الترهيبي في السجن هو لهدف واحد، وتحديدا لأجل كسر نفسيته وإذلاله إلى نقطة اللاعودة، وعندما وعى مانديلا لهذا الأمر دخل في مرحلة الصمود المطلق لإنقاذ «نفسه»، وخرج من السجن بعد حملة دولية مكثفة لمقاطعة دولة جنوب أفريقيا على كل الأصعدة، وبدأت الحكومة العنصرية تعي أنها لا يمكن أن تستمر في نهجها، واقتنعت بأنها لا بد أن تطلق سراح الزعيم الأفريقي الكبير من سجنه، وهذا تماما ما أعلنه ذات يوم الرئيس الأسبق دي كليرك.

خرج مانديلا بقامته الطويلة واثق الخطوة بكل العزة يمشي ملكا ملوحا للجماهير وللحرية بقبضة يده، وبعدها وبكل هدوء وشموخ كان يبتسم ويصافح كل مستقبليه ومهنئيه بيضا وسودا. لم يحمل مدفعا رشاشا يغتال به كل من يقابله ليعبر عن غضبه كما كان سيتفهم لأجله البعض، لكنه ترفع عن كل ذلك وأقام نصب عينيه هدفا واحدا وهو إصلاح بيت الداخل وبث روح الأمان والاطمئنان لكل سكان وأهالي ومواطني بلاده، وهو ما نجح فيه بامتياز، لتقام أول انتخابات حرة في البلاد ويفوز بشكل كاسح بالرئاسة، ويحكم لمدة واحدة فترتها كانت خمس سنوات، أقام فيها لجنة للتسامح ونسيان الماضي تماما وقلب صفحاته مقابل الاعتراف بالخطأ. واختار مانديلا أن يكون هو نفسه مثالا عمليا وواقعيا وحقيقيا على روح التسامح التي ينشدها، فاختار دي كليرك (عدوه السابق) ليكون نائبه في رئاسة الجمهورية الجديدة، وفاز بالتالي بجائزة نوبل للسلام بشكل مستحق.

كان بالإمكان أن يحكم مانديلا للأبد، لكنه سلم الحكم لنائبه، وتفرغ ليكون حكيما سياسيا يساعد الدول الأفريقية في أزماتها وتحدياتها، وأسهم في تحسين صورة بلاده وجلب الاستثمارات الكبرى لها حتى باتت إحدى الدول المتألقة اقتصاديا.

نجح مانديلا في طمأنة البيض في بلاده والعالم بأسره بأن الحب والتسامح قادران على هزيمة الشر متى توافرت الإرادة له على القيام بهذا الخطوة المهمة. ومن المشاهد المؤثرة والرمزية في حياة مانديلا كرئيس حين حضر نهائي بطولة كأس العالم للعبة الرغبي والمقامة على أرضه، حيث ارتدى ملابس فريق جنوب أفريقيا، وهو الفريق الذي كان يمثل أيقونة العنصرية للرجل الأبيض، وفورا كسب ود ومحبة الملايين من البيض من أهالي بلاده وعبر بهم إلى بر الأمان.

نيلسون مانديلا ليس فقط شخصية أسطورية، لكنه أقرب للمعجزة البشرية في معيار التسامح والرقي. كان لي شرف مقابلته والتعرف عليه شخصيا، وما زلت أعتبر ذلك الأمر من أهم الأحداث في حياتي وأكثرها تأثيرا في. هو الآن بين يدي رحمن رحيم، ترك إرثا هائلا نستفيد ونتعلم منه، فهو اتبع النهج المحمدي على صاحبه أزكى صلاة وأطهر تسليم حينما نفذ «اذهبوا فأنتم الطلقاء» حرفيا ودونما انتقام.. فهل من متعظ؟