جبابرة الضعف

TT

قضت هذه المهنة بأن نتفرغ لمتابعة التاريخ وهو يصنع نفسه كل يوم. لم نتوقع يوما خروج مانديلا من السجن، ولا ظن أحد أن موته سوف يكون عالميا إلى هذا المدى الكوني. لم نتوقع يوما أن عامل الكهرباء ليش فاليسا سوف ينتصر على النظام الشيوعي في بولندا ويصبح رئيس البلاد، وتسأله كبرى صحف العالم عن رأيه في الأمم. عندما دخل فاتسلاف هافل السجن، لم نتوقع أن يخرج، وليس فقط لأن يخرج رئيسا على تشيكيا. ربما أهم رئيس في تاريخها.

جبابرة الضعف هزموا أقسى أنواع الأنظمة. تمنيت أن أعرف أمس مشاعر ديك تشيني، نائب جورج بوش، وهو يرى العالم أجمع ينحني أمام ذكرى الرجل الذي كان يصفه بـ«الإرهابي». لم يحرر أولئك الجبابرة بلدانهم فحسب، بل حموا وحدتها. ترك هافل سلوفاكيا تنفصل إلى استقلالها من دون كلمة عنف. أرسل إليها باقة ورد. فهي لم تعد جزءا من البلاد لكنها سوف تظل جارة طيبة.

أهم ما في مانديلا وفاليسا وهافل، أنهم صفحوا عن أعدائهم في الداخل والخارج. تعالوا نبني المستقبل لأن الماضي موت. تعالوا نبني من جديد لأن ذكريات الماضي سلاسل لن تتركنا نتقدم خطوة واحدة.

لا ضرورة للقسم لكنني كنت أعتقد أن الابتسام ممنوع في دول الكتلة السوفياتية. عندما ذهبت إلى براغ والريف التشيكي أيام هافل، رأيت الفرح على كل الوجوه. وعثرت على «مطعم لبناني» بعيدا عن العاصمة، يجتهد في تقليد الحمص وخلط التبولة.

ولدنا في أرض يائسة ولذلك كان صعبا علينا أن نتفاءل لأحد. ثم رأينا الدنيا تبتسم في بعض الأمكنة. حتى في جوهانسبورغ وسويتو الدنيا تبتسم. حتى في فرصوفيا. حتى في براغ التي هجمت دبابات بريجنيف عليها تخطف ربيعها. ماذا يجمع بين الأمثلة الثلاثة؟ أن الثورة السلمية هي التي انتصرت. العامل الضعيف في فرصوفيا والمسرحي التائه في براغ، وفي جوهانسبورغ ذلك السجين الذي عندما عُرض عليه الإفراج شرط التوقف عن العمل السياسي، قال: «كيف ألتزم شيئا وأنا وشعبي لسنا أحرارا؟».

هؤلاء كانت ثورتهم القيم الأخلاقية. التزموا ألاَّ يقلِّدوا جلاَّديهم بل أن يسامحوهم. ودخلوا التاريخ ناصعين، ليس عليهم أثر من غبار ورشة العمل، أو سوداوية كتاب للمسرح، أو سمرة ذلك الأجعد الذي أُعلن «أمير الصفح» في التاريخ.