حفيدات إيرما

TT

في فيلم «عفريت مراتي» الذي عرض أواخر الستينات الماضية، تحاول شادية أن تصطاد زوجها بالجرم المشهود، متلبسا بمغازلة امرأة غيرها. ولتحقيق خطتها، تعترض طريقه متنكرة في أزياء نساء من جنسيات مختلفة، إسبانية ويابانية وأميركية وفرنسية. وقد كانت هذه الأخيرة بائعة هوى تدعى «إيرما لا دوس»، أو إيرما الناعمة. ومنها استعارت شادية أغنيتها التي كتب كلماتها حسين السيد:

«أنا اسمي إيرما لا دوس

ياما العشاق خدوا مني دروس

عندي أحلام مليانة كلام

مش أي كلام ده كلام بفلوس».

ماذا سيفعل الرئيس هولاند بعشرات الآلاف من سليلات إيرما الناعمة، بائعات الهوى على الأرصفة، بعد أن يفقدن مجال نشاطهن وينضممن إلى ملايين العاطلين عن العمل في فرنسا؟ لقد تبنى البرلمان، قبل أيام، قانونا يعاقب بغرامة مالية باهظة كل من يضبط من زبائن الليل (والنهار) وهو يبحث عن المتعة المدفوعة الثمن في أحضان «عاملات الجنس». إنها التسمية التي اخترنها لوظيفتهن، وعددهن الرسمي يقدر بعشرين ألفا. لكن يمكن للمرء أن يضاعف هذا الرقم من دون أن يرف له جفن. فوراء الواقفات على الأرصفة وتحت أشجار غابة بولونيا، حشود من العاملات عبر الهاتف والإنترنت والفنادق والمكاتب المغلقة.

تريد الحكومة الاشتراكية أن تنهي محنة نساء يتعرضن للعبودية واستغلال السماسرة. لكن هناك شخصيات فرنسية ترفض القانون الجديد وتدافع عن «أقدم مهنة في التاريخ» كنوع من الفولكلور. إنه واقع دخل في صلب النسيج الثقافي للبلد ومن دونه تفقد الآداب والفنون ملحها. كيف نقرأ ألكسندر دوما الابن من غير «غادة الكاميليا»؟ وإميل زولا بعيدا عن بطلته «نانا»؟ وموريس شوفالييه من دون رفيقته «المنتظمة»؟ ماذا يتبقى من الروايات إذا حذفنا منها شخصية فتاة الليل؟ ومن الأفلام إذا خلت من الغانية والمقامر والمرتشي والخائن والسكير واللص والقاتل وباقي الخارجين عن القوانين والأعراف؟ إن الاستقامة فضيلة لكنها لا تصنع الدراما. والمثل الشعبي بليغ حين يوصي: «تعلم الأدب من قليل الأدب».

إيرما كانت شخصية خطرت على خيال المؤلف المسرحي ألكسندر بريفور قبل أن تصبح عرضا موسيقيا من بطولة كوليت رونار. لقد جرى تقديمه، للمرة الأولى، على مسرح «غرامون» في باريس عام 1956. وفي السنوات الأربع التالية ظل الجمهور يقطع التذاكر ويدخل، كل ليلة، ليشاهد حكاية بائعة الهوى التي تغرم بشاب يدرس الحقوق. سمراء رقيقة ذات جوربين أخضرين، تطرق بكعب حذائها الرصيف في حي «الهال» العتيق فيتوهم من يراها أنها عاشقة تنتظر حبيبها.

من باريس طارت شهرة إيرما الناعمة إلى نيويورك، فقد أخذها المسرحي البريطاني بيتر بروك وقدمها، بالإنجليزية، على مسارح برودواي. وهناك كان نجاح مماثل ينتظرها، بحيث إن الممثلة إليزابيث سيل، التي أدت دور الغانية الفرنسية الناعمة، نالت عنه «توني أوارد»، جائزة المسرح التي تعادل الأوسكار في السينما. ولم تتوقف إيرما عند ذلك فقد شغف المخرج بيلي وايلدر ونقلها إلى الشاشة الكبيرة، وقامت بالدور شيرلي ماكلين.

وبائعات المتعة لسن غريبات عن شعرنا العربي. وقد مرت خيالاتهن في عشرات القصائد، أشهرها «المسلول» للأخطل الصغير بشارة الخوري. كان الشاعر أخلاقيا فأراد أن تكون قصيدته فرمانا في التحذير من مخاطر التردد على مثيلات إيرما الناعمة:

«حسناء أي فتى رأت تصد

قتلى الهوى فيها بلا عدد».

أما بدر شاكر السياب، الذي كان يساريا، فقد تناولها من زاوية القهر الطبقي في قصيدته «المومس العمياء»:

«الحارس المكدود يعبر والبغايا المتعبات

النوم في أحداقهن يرف كالطير السجين

وعلى الشفاه أو الجبين

تترنح البسمات والأصباغ ثكلى باكيات

متعثرات بالعيون وبالخطى والقهقهات».

سهر النواب الفرنسيون حتى ما بعد منتصف الليل وهم يتناظرون ويتجادلون قبل أن يصوتوا، بالأغلبية، على الفقرة التي تجرم زبائن المتعة الحرام. وفي الصباح التالي خرجت صحيفة «ليبيراسيون» بعنوان عريض على الصفحة الأولى: «أقدم جدل في التاريخ». وفي حين هلل عدد من النسويات للقانون متوهمات أنه سيضع حدا لتجارة الجسد، تحدت الفيلسوفة المهتمة بقضايا المرأة، إليزابيث بادنتر، الحكومة أن تخصص الميزانية المطلوبة لملاحقة رأس الأفعى، المافيات والسماسرة الذين يأتون بالرقيق من شرق أوروبا.

هل كانت ذات الجوربين الأخضرين تعرف أنها ستثير زوبعة تحت قبة البرلمان؟