بيننا ألف برلسكوني.. وألف!

TT

عندما جرد مجلس الشيوخ الإيطالي، رجل الأعمال ورئيس الوزراء السابق برلسكوني، من عضويته في المجلس، بسبب إدانته بالاحتيال الضريبي، يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مرت المسألة برمتها على أغلبنا، كما يمر غيرها، دون اهتمام يُذكر، مع أنها، من حيث معناها الغائب عندنا، تستحق أن نمنحها ما يليق بها من الاهتمام.

صحيح أن الرجل حاول أن يعطيها صبغة سياسية، حين وصف يوم تجريده من عضوية الشيوخ، بأنه يوم حداد، وأنه يوم أسود على الديمقراطية، وأنه، وأنه، ولكن الحقيقة أن الحكاية لا علاقة لها، من حيث مضمونها، بالسياسة، بقدر ما لها علاقة مباشرة بالقانون الذي احتال عليه هو!. وفي اللحظة التي يجري فيها اتهام شخص بالاحتيال الضريبي، ثم إدانته، فإن المعنى الباقي، هو أن هذا الشخص، سواء كان هو برلسكوني، أو غيره، قد أخفى جوانب من دخله عن سلطات الضرائب، بما أدى في النهاية إلى حرمان خزانة الدولة من موارد كان يجب أن تأتيها.

وفي الغرب بوجه عام، وفي أميركا بشكل خاص، يُقال دائما إن هناك شيئين لا يستطيع المواطن أن يهرب منهما: الموت.. والضرائب. فإذا ما جرب أن يهرب، كما فعل برلسكوني، ثم تم ضبطه، ومحاكمته، وإدانته، فإن أقل عقاب يمكن أن يواجهه، هو تجريده من عضوية مجلس الشيوخ الموقرة!.

وأحيانا يتساءل المرء، عن السبب الذي يجعلهم هناك، في الغرب إجمالا، يأخذون القصة بمثل هذا التشدد الذي لا يعرف اللين، ولا المرونة، ولا حتى التفاهم.

فإذا ما بحث أحد عن الإجابة، لسؤال كهذا، فسوف يكتشف أن الأمر سهل، وواضح للغاية، وهو أن تساهل الدولة، أي دولة، في ضرائبها المستحقة على مواطنيها القادرين، يجعلها عاجزة عن الوفاء بما يجب أن تقدمه لكل مواطن محدود الدخل، وخصوصا في مجال الخدمات العامة، وبشكل أخص في التعليم، وفي الصحة، ومن شأن عجز الدولة عن القيام بمهامها الأصيلة، في هذا الاتجاه، أن يضربها في صميم وجودها، أو بمعنى أدق، في صميم فلسفة وجودها. ذلك أن الدولة، لكي تكون دولة، لا بد أن تكون صاحبة هيبة إزاء رعاياها، وهي لن تكون صاحبة هيبة، إلا إذا استطاعت أن تقدم لمواطنيها ما لا يستطيع غيرها على أرضها أن يقدمه، وهذا الذي عليها أن تقدمه، يحتاج إلى إنفاق عام، والإنفاق العام في حاجة بدوره إلى موارد، والموارد بدورها هي كذلك لا يمكن اختراعها، وإنما لها مصادر معروفة، ومستقرة، ومتفق عليها، ومن بينها، إن لم يكن أهمها، الضرائب.

إذ تأخذ الدولة منك، كصاحب مال، بنسبة معينة، ومحددة بالقانون، لتنفق على الذين لا مال عندهم، فإذا ما مارست أنت الاحتيال، لا سمح الله، كما فعل رئيس الوزراء الإيطالي الشهير، وإذا ما احتال غيره، جفت الخزانة العامة، من جزء كبير من مواردها، ولم تجد الدولة ما تنفق منه، وصارت، والحال كذلك، شبه دولة، لا دولة بالمعنى الدقيق!.

من أجل هذا السبب، شديد الوضوح، تؤخذ الضرائب عندهم، بالشدة التي رأينا مثالا ساطعا لها مع برلسكوني، ولا تعرف الحكومات في تلك الدولة، التهاون، في أي تفصيلة تتصل بهذا الملف، على أي مستوى!.

ولأنها كذلك، أقصد الضرائب، فقد أصبحت «ثقافة» لدى الجميع، مع وجود استثناءات نادرة بطبيعة الحال، ومعنى «الثقافة» هنا، هو أنها تجري في دم كل واحد منهم، ولا يفكر في الهروب منها، تحت أي ظرف، وإذا حدث وفكر، وجد العقاب الرادع في انتظاره على هذا النحو المبين في واقعة رجل الأعمال والسياسي الإيطالي ذائع الصيت. وهناك معنى أبعد، لكون الضرائب لديهم، قد وصلت إلى مرتبة الثقافة التي يمتلئ بها الإنسان منذ أن يعي الدنيا، وهذا المعنى هو أن أداء الضريبة المستحقة عليه، يتعلق بالضمير في داخله، أكثر مما يتعلق بالقانون وما يفرضه، بما يجعل أداء المستحق، من جانب صاحبه، أمرا تطوعيا، وتلقائيا، أكثر منه إجبارا وإرغاما، في أغلب الحالات. ولأنه كذلك، فالإنفاق العام، هناك، على الخدمات العامة، بالمستوى الذي نراه جميعا، كما أن درجة الجودة في تلك الخدمات، بالمستوى أيضا الذي نعرفه ونتابعه.

وإذا كان لأحدنا أن يتمنى شيئا، في سياق كهذا، فهو أن نصل يوما، لدى ممولينا، إلى ما وصلوا إليه في الغرب كله، وأن يكون الوصول من باب الضمير، لا القانون، لأنه ليس أكثر من القوانين عندنا، في حقيقة الأمر، ومع هذا، فإن خزانة أغلب دولنا تئن، وتمارس الحكومات عملها، أو تؤدي دورها، ولسان حالها يقول: الإيد قصيرة، والعين بصيرة!

في بلادنا، بالمناسبة، ألف برلسكوني وألف، ممن يمارسون ما راح هو يمارسه، ولكن الفرق أن احتيالهم يمر، وأن احتياله أو احتيال غيره ضرائبيا، لا يمكن أن يمر، بل ويكون العقاب كما في حالته، مقرونا بما يشبه التجريس عندنا. ولأن كل إنسان، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، ما معناه، يولد على الفطرة، وأن أبويه يوحدانه أو يعمدانه، فإن الإنسان لا يأتي من بطن أمه، مؤمنا بالضريبة، وموقنا بها، وإنما هو يتعلمها في مدى حياته، ويساعده مجتمعه على أن يتشربها في دمه، أو أن يحتال عليها، وعلى القائمين بها، ويتهرب منها، ومنهم، بل ويجد أحيانا من يصف تهربه أو احتياله بيننا بأنه شطارة!.

ولن تكون لمجتمعاتنا العربية، مكانتها التي تستأهلها بين مجتمعات العالم، إلا إذا آمن كل واحد فينا، بأن عليه أمام مجتمعه أشياء، بمثل ما أن له أشياء تماما، وأن من واجبه أن يبادر بما عليه، فإذا لم يبادر، كان القانون الأعمى الذي اصطاد برلسكوني، في انتظاره.