يعرف عنه بأنه ابتسامة

TT

منذ أن تبدأ القراءة تبدأ في تعلم الفوارق: الأحرف القمرية والأحرف الشمسية. الليل والنهار. الشتاء والربيع. الحياة كلها فوارق: الخير والشر. الصحة والعلة. العمل وتمضية الوقت في رابعة العدوية، أو سواها، لا فرق. الحرب والسلم. الخوف والطمأنينة. القلق والسكينة. الكرم والبخل. فوارق ونقائض. جمال وقبح. طيبة ونميمة. جهل ومعرفة. دسَّ ونبال. دعة وادعاء. شهامة ولؤم.

في الثقافة العربية كل شيء تقريبي. أحيانا تسأل رجلا عن رقم هاتفه فيعطيك سبعة أرقام، ويضيف: «تقريبا». مع أن رقم الهاتف، ورقم المنزل، ورقم الرحلة إلى لندن، لا يمكن أن يكون تقريبا. يستحيل. الرقم ضد الغموض والغيبيات، والعلم الذي يقوم عليه هو علم الحساب. والفارق بيننا وبين سوانا أن الرئيس عندنا يفوز بـ99.99 في المائة، بينما يصل القطار إلى محطة لوكسمبورغ الساعة العاشرة وعشر دقائق. أي دقيقة ناقصة أو زائدة مأساة. في حين أنك لو حذفت من 99.9990 في المائة ثمانين في المائة لما تغير شيئا. ولا يتغير شيء إن اعترضت أو اقترعت أو تمنعت.

مذ وعينا جميعا ونحن نقرأ في وصف الفصول: ما هو الشتاء، وكيف يكون الربيع. أجمل ما قرأت في ذلك كان للألماني هاينريتش هايني في «رحلاته الأوروبية»، إذ ينتقل من فصل إلى فصل، يقول: «كانت نفسي يابسة حتى من الإلهام». لكن إذ أطل الربيع «جاء اليوم الذي يتدلى فيه كل شيء. الشمس اخترقت غيوم السماء وغمرت الأرض، وليدها القديم، بدفء أشعتها، واهتزت الجبال طربا وأشرقت الأزهار وغنّت الغابات وشدت العنادل والبلابل. كل الطبيعة تبتسم، وهذه الطبيعة تسمى الربيع».

هل هو ربيع، ذاك الذي نعيشه منذ احتراق محمد البوعزيزي؟ موت رجال الشرطة في سيناء، ومرض الجدري الذي يضرب اللاجئين السوريين، ونسف المصلين في العراق، وحرب المجهول في ليبيا، وتفجير الجوامع في طرابلس (لبنان)؟ لقد زاد من انقباض الصدور والعتم. وبموجب تعريف هايني للربيع فلا أثر له هنا. شتاء مطبق وعتم دامس. لحق «الإخوان» بعلاء الأسواني إلى معهد العالم العربي في باريس لكي يمنعوه من الكلام. كان الأسواني أحد رموز ميدان التحرير، ينزل إليه كل يوم ليخطب في الرفاق ويحدث الصحافيين الأجانب عن ربيع مصر.

عاش الربيع العربي بضعة أيام تقريبا. ما يكفي لأن ينقضّ عليه المتربصون في الظلام. مساكين أصحابه الذين أطاحوا بن علي ومبارك والقذافي وعلي صالح. نسوا أن القاعدة لا تتغير 99.9990 في المائة.