السياسي لا يملك ترف الكراهية

TT

في معظم ما قيل في تأبين الزعيم التاريخي لجنوب أفريقيا هناك إجماع على أنه سيدخل التاريخ كواحد من الزعماء التاريخيين للعالم، الذين عرفوا كيف ينتصرون بالتسامح والحكمة على أبغض أنظمة الفصل العنصري في العالم، ليؤسس لدولة جديدة في جنوب أفريقيا يتساوى فيها الجميع ما جعله مصدر إلهام في العالم كله، ويحظى باحترام شديد شرقا وغربا.

وجزء كبير من هذا الاحترام يرجع إلى المهابة التي يحظى بها وقدرته على تجاوز ما فعله به نظام الفصل العنصري السابق الذي وضعه في السجن وهو في سن 44 عاما تقريبا، ليخرج وعمره نحو 71 عاما، وفضل التوصل إلى صيغة سياسية تضمن انتقالا سلميا إلى دولة جديدة قائمة على المساواة بين طرفي الصراع الأغلبية من سكان البلاد الأصليين السود والبيض المهاجرين المستوطنين، بدلا من أن يترك نفسه نهبا لغريزة الانتقام.

وقد نقل عنه في مقابلة خاصة بسيرته الذاتية عام 2007 عندما سئل كيف تغلب على ما فعله به نظام الفصل العنصري السابق، الذي جعله يمضي أفضل فترة في حياته مسجونا، ومارس قهرا أدانه العالم كله ضد أهل البلاد الأصليين الذين يشكلون ثمانين في المائة من السكان أن السياسي لا يملك ترف الكراهية، فالكراهية تلوث العقل.

وهذا هو أبرز الدروس التي يجب أن يستفاد منها في سيرة مانديلا، فهو لم يكن مجرد زعيم روحي، أو ملهم لحركة التحرر في جنوب أفريقيا، لكن أبرز جوانب شخصيته التي تتحدث عنها السير والكتب التي صدرت حوله، هي شخصية السياسي الداهية الذي استطاع أن يمسك بالدفة ويوجهها نحو أفضل حل سياسي تستطيع به جنوب أفريقيا أن تعبر إلى دولة حديثة ولا تظل أسيرة الماضي أو نزاعات الكراهية.

فالعالم كان يعرف أن نظام الفصل العنصري الذي يحرم ثمانين في المائة من السكان من حقوقهم يجدف خارج تيار التاريخ، وأن نهايته ستأتي في يوم من الأيام رغم قوته وامتلاكه أسلحة نووية، لكن لا أحد تصور أنه يمكن أن يأتي الحل سلميا، فقد كانت التنبؤات أن تدخل جنوب أفريقيا في حرب أهلية دموية طويلة، وعمليات انتقام لا تنتهي كما حدث، ويحدث حتى الآن في دول كثيرة في العالم.

مانديلا رأى ذلك، وكان مقتنعا أن خلاص جنوب أفريقيا لن يأتي إلا بحل فيه تعايش سياسي بين الجانبين، فبدأ التفاوض الطويل من السجن في عام 1984 مع الحكومة البيضاء، وبرزت مهارته السياسية من خلال المناورة مع تيار قوي في المؤتمر الوطني الأفريقي الرافض لفكرة التفاوض، ودحض أفكار العنف، رغم أنه مارسها في شبابه، وفي الوقت ذاته طمأنة الأقلية البيضاء التي كانت مهيمنة على مقاليد السلطة والبلاد إلى أنه لن تكون هناك أجواء انتقامية، والترتيب لصيغة تضمن مشاركة الجانبين في السلطة السياسية، جاءت ثمارها بعد عامين من خروجه من السجن في شكل اتفاق على نقل السلطة مع دي كلارك الذي حصل مع مانديلا على جائزة نوبل للسلام في عام 1993. وليصبح رئيسا بحكومة أغلبية أفريقية بعد انتخابات عامة تجاوز أعمال العنف من الجانبين في عام 1994، ولم يكن حريصا على مدة رئاسة ثانية، وربما كان قد استهلك جهده السياسي بعد سنوات السجن والتفاوض.

لقد رأى مانديلا السياسي مجتمعه بشكل صحيح رغم الظلم البين الذي تعرضت له الأغلبية من نظام فصل عنصري خارج التاريخ، واختار حلا تعايشيا لمجتمع متعدد قابل للاستمرار بدلا من الانخراط في صراع دموي نتيجته كانت ستكون مكلفة ولن تنتهي إلا بالخراب.

هذا الدرس لم تستفد منه مجتمعات أو دول أخرى ما زالت لسبب أو آخر في تناحر أو صراعات لا تنتهي، ويكبر فيها حجم الكراهية كل يوم من دون قدرة على التصالح مع النفس ومع الماضي، وهو الشرط الأساسي للسير إلى الأمام. ولذلك كثر القول في أزمات كثيرة ليس لدينا مانديلا هنا.