خذ العلم من أهله

TT

كان القوم يحصلون على ما يلزمهم من المعلومات من حلاق الحارة، المزين. وما يلزمهم من المعلومات لم يتجاوز السؤال عن شخص يبغي الزواج بابنتهم، أو امرأة تصلح لهم كزوجة ثانية، أو عن دلال يبيع لهم حمارهم. والحلاق هو المصدر لكل المعلومات التي تمس كل عائلة تسكن في حارتهم. فما يجلس رجل على كرسي الحلاقة حتى يبدأ الحوار بينه وبين الحلاق. يبدأ به الحلاق: «أبو فاضل هاي شنو؟ الشيب مالي راسك؟ خير ان شا الله!» وينطلق الزبون فيروي له همومه.

ولكن بتطور الحياة وشيوع الخدمات البريدية والتلغرافية، أصبح البوسطجي، ساعي البريد، هو مصدر الأخبار. وهو ما عبر عنه الشاعر بلند الحيدري في قصيدته الخالدة:

ساعي البريد!

ماذا تريد؟

أخطأت لا شك فما من جديد

تحمله الأرض لهذا الطريد!

إذا كان ساعي البريد يعرف كل شيء عن صديقنا المرحوم بلند، فهو دون شك يعرف كل ما يجري في الحارة. أين تسكن كل عائلة، وكيف هجر أبو عبد الرحمن زوجته وأولاده وانتقل ليعيش مع صاحبته الأرتيست الغريكية، وأين يسكن الآن، وماذا عن فلان الذي انتقل من بيته الخرب إلى قصر محترم، من أين جاء بالفلوس ولماذا تسأل الشرطة عن مقامه... وهلم جرا. ولا عجب أن خلدت في أذهاننا أغنية رجاء عبده:

البوسطجية اشتكوا مِن كُتر مراسيلي

وعيوني لما بكُوا دابت مناديلي

وهذه كانت ظاهرة شائعة قبل دخول الإنترنت. في هذه الأيام، ما عليك غير أن تقضي عشر دقائق أمام الكومبيوتر لتكتشف كل شيء عن أي شخص. كنا نصف السرعة بقولنا أسرع من الصوت، ولكن هذا أصبح موضة قديمة. نقول اليوم أسرع من الإنترنت. ومع ذلك، فقد ظل البوسطجي مصدرا للمعلومات في كل العالم، وحتى في قلب الإمبراطورية البريطانية. حيث كتب دلن تومس مسرحيته الخالدة «اندر ملكوود» يجسم فيها تلصص البوسطجي على أخبار سكان الحارة. وينقل هذه الأخبار من بيت إلى بيت بأسرع من سرعة الإنترنت.

تعتز بريطانيا بسبقها في خدمات البريد بدليل الاسم الذائع في كل العالم «بوست» (post). لمست سبقها هذا في المظروف الذي أراني إياه صديقي يوسف سليم. قدر له أن يستضيف أحد أقربائه، رجلا بسيطا لم يعرف حرفا من الإنجليزية. قضى أيامه في لندن يركب الحافلة رقم 49 يوميا من كنسنغتن إلى بيت صديقي في هولند رود ويعود به إلى فندقه. عاد إلى كردستان وفكر في شكر قريبه على مساعدته، ولكنه لم يعرف العنوان فكتب على الظرف بالعربي «الأخ يوسف سليم، الباص 49، لندن»! نفترض في أي دائرة بريد أن ترمي هذا المكتوب في الزبالة. ولكنهم ترجموه إلى الإنجليزية وفكروا في أي منطقة يسكنها عرب ويمر منها هذا الباص. كنسنغتن. حولوا المظروف إلى بوسطجي كنسنغتن. وببراعة تذكر البوسطجي صاحبي الذي كثيرا ما يتسلم رسائل بالعربية ويعج بيته بالضجيج وبرائحة الثوم والبصل. فسلمه له. وكانت معجزة من معجزات البوسطة والبوسطجية.