تسويق «الاتحاد»!

TT

هناك إرث كبير ومتراكم في الذهنية العربية، وهو في أغلبه سلبي جدا، فيما يتعلق بتجارب الوحدة بين الدول العربية أو المجالس التي تدعو لهدف متشابه.

ولعل التجربة الأشهر في الذاكرة هي الوحدة التي قامت بين مصر وسوريا في حقبة الخمسينات الميلادية من القرن الماضي. وكانت تجربة سيئة للغاية نظرا لسوء الأداء الإداري للقيادة المصرية متمثلة في جمال عبد الناصر وصديقه عبد الحكيم عامر اللذين مارسا القمع على السوريين كما مارساه على المصريين. وحاولا بكل سطحية «إلغاء» السوريين من المعادلة السياسية المشتركة. وطبعا، استغل هذا المناخ عناصر حزب البعث بتوجهاتهم المريبة، فنجحوا في إحداث الانفصال الذي كان حتما آتيا في ظل مناخ غير سوي البتة. وبعدها، حصلت محاولات كثيرة للوحدة بين مصر وسوريا والعراق، ثم مصر وليبيا والسودان، وجميعها باءت بالفشل الذريع.

وبعد مرور فترات من الزمن، انطلقت «مجالس تعاون» بين الدول العربية المختلفة؛ فكانت مجالس التعاون «الخليجي» و«المغاربي» و«العربي». وبينما انتهى «العربي»، وما زال «المغاربي» يئن ويعرج ويتلعثم ويتعثر، يستمر «الخليجي» - المجلس الوحيد المليء بالحيوية والنشاط - بدوله الست، الذي كانت هناك محاولات جادة وحثيثة عبر الأزمان لزيادة أعضائه، وذلك بضم اليمن والأردن والمغرب، إلا أن هذه المحاولات، لظروف ولأسباب مختلفة، لم يكتب لها النجاح ولا التوفيق، فأغلق ملفاتها تماما.

والآن، لظروف سياسية وأمنية واقتصادية، تتطور أمور العلاقات بين دول مجلس التعاون، فيزداد التنسيق الأمني بينهم بشكل ملحوظ، مع عدم إغفال توسع النمو الاقتصادي البيني بشكل هائل وزيادة رقعة المشاريع التنموية والاستثمارية المشتركة، وانعكاس ذلك على نمو الحراك البشري بين الدول؛ في الزيارات، والسياحة، والمصاهرات، والمشاركات. فتزيد من ثم أواصر الشراكة الاجتماعية التي هي لحمة أساسية مطلوبة لإنجاح أي منظومة سياسية بشكل مستمر ومستدام، كما هو معلوم.

وبعد أكثر من ثلاثة عقود من بناء الثقة وإثبات جدارة العلاقة بالصمود، وسط أمواج التحديات والمشاكل والصعوبات الداخلية والإقليمية والدولية، وطبعا بما فيها البينية، كان من الطبيعي أن ينتقل الحديث إلى علاقة أكثر تكاملا بين الدول الأعضاء، وخصوصا في ظل وجود رغبات شعبية - لا يمكن إغفالها ولا إنكارها مع ارتفاع صوت الوتيرة - من مواطني دول المجلس في تطوير العلاقات لتصبح أكثر تكاملا بين الدول الأعضاء.

وكان طرح فكرة «الاتحاد» بين الدول منطقيا، وهي نفس المسيرة التي مرت بها الدول الأوروبية قبل اتحادها وبعد الإعلان عنه، وهي أيضا نفس المرحلة التي تمر بها الدول الأعضاء في تكتل «آسيان» بمنطقة جنوب شرقي آسيا، ودول «ميركور» في أميركا اللاتينية. وهناك دوما من يرحب وهناك من يتحفظ ويعترض، كل له أسبابه؛ منها ما يتعلق بالسيادة أو بالاستقلالية أو الحيادية. ولا بد من التعامل مع هذه الأسباب باحترافية ومهنية وحكمة وحصافة.

مطلوب «تسويق» فكرة الاتحاد للدول الأعضاء جيدا، وإبراز المزايا فيه للحكومات وللشعوب حتى تكون هناك القناعة المطلوبة والتعامل مع هذه المسألة على أنها نقلة تنموية للشعوب وليست فقط قرارا سياسيا مؤقتا. وقتها سيكون للأمر وقع آخر لأنه ربط برغبات الناس ومصائرهم، وهذه مسألة تهم الكل.