تصدعات سياسية لا تكفيها النوايا الحسنة!

TT

هذه التحولات في الموقف من «إيران» لم تقف عند حدود الارتباك الأميركي، بل انعكس ذلك على تلقي الكثير من الدول العربية وحتى بعض دول الخليج الإشارات الأميركية على نحو خاطئ ومتعجل، على الأقل إذا ما أخذنا في الاعتبار أن جزءا كبيرا من الاتفاق الغربي الإيراني هو في إطار الاقتصاد السياسي وليس العلاقات الدولية بما تفرضه الأخيرة من صيغة توافقية تفصيلية وليست مرحلة تجريب نوايا واختبار لمصداقية روحاني التي يروج لها باعتبارها نهجا وسلوكا جديدا لإيران اليوم.

ما يتغافل عنه المتساقطون سريعا في أحضان دعاية نظام طهران، وهم في الأغلب يتحركون بناء على مزيج من النوايا الحسنة والاعتراف بحجم التأثير المحدود، هو أن التسوية الجديدة المشروطة ولدت بعد التسوية الدولية حول السلاح الكيماوي السوري، وبالتالي فالإخفاق في التوصل إلى تسوية شاملة لتجنب الحروب في المنطقة، وهو هدف إدارة أوباما النهائي، يعني انهيار هذه الحفلة ودخول المنطقة في أتون نزاعات سياسية قد تؤدي إلى حرب ما.

الهروب من أي مغامرة عسكرية شكل الدافع السياسي لتحويل جبهات الصراع في المنطقة إلى رساميل سياسية يمكن اللعب والتحكم فيها، فالخوف من تبعات العمل العسكري ضد إيران وانهيار ميزان التوازنات الإقليمية واستعادة إيران عافيتها سريعا وتحولها لدولة نووية في حال كانت فشلت الضربة، إضافة إلى أن قيادة المفاوضات من قبل الولايات المتحدة سيجعلها في موقع تفاوضي مباشر يضغط على إيران من جهة ويحاول إقناع الحلفاء بإيجابيات المرحلة المقبلة.

هناك اتجاهان خاطئان ولدا في ردة الفعل لبعض الدول الخليجية تجاه الاتفاق الأميركي الذي ما زال في طور الحضانة، فمحاولة التقليل من ثقل الولايات المتحدة عطفا على نقاط الضعف في سياسة أوباما الخارجية لا تعني بالضرورة الاتجاه إلى تحالفات جديدة، حيث يطرح ملف بناء علاقات جديدة مع الصين والهند واليابان، وحتى بعض دول الاتحاد الأوروبي، على شكل منفرد، وهي اقتراحات لا ترقى حتى للمناقشة إذا ما علمنا وضعية هذه الدول، فعدا الوضع الاقتصادي القاتم لدول الاتحاد الأوروبي؛ فإن استدعاء ثقل الصين اقتصاديا وعلى الأسواق العالمية لا يعني أي حضور على مستوى ممارسة سياسية خارجية بهذا الحجم.

السؤال الحقيقي هل يمكن لأميركا وإيران منفردتين إصلاح الكوارث السياسية، التي عمت المنطقة منذ أحداث غزو العراق ولاحقا سقوط الأنظمة العربية في أتون الربيع العربي؟!

الجواب بلا شك.. لا كبيرة، فما تدركه الولايات المتحدة جيدا هو أن سقوط نظام صدام حسين عمق الانقسامات بين الشيعة والسنة حتى بعد أن تحول العراق إلى ضابط إيقاع للتمدد الإيراني في المنطقة، لا سيما بعد الدخول في الأزمة السورية والوقوف مع النظام الأسدي، تحرر الليبيون من القذافي، لكنهم وقعوا فرائس لجماعات العنف المسلح والتيارات الجهادية المتطرفة التي لم تحضر كمجموعات نصرة كما هو الحال في سوريا، وإنما نبتوا من الداخل في ملمح مهم إلى أن تهاوي الأنظمة السياسية يكشف عن مكونات المجتمعات العربية على حقيقتها لا كما يصورها الإعلام، كما أن إدارة الولايات المتحدة للأزمة المصرية أدى إلى عزلها عن صراع الجيش برافعة التأييد الشعبي الساحق ضد الإسلام السياسي الذي قدمته أميركا في المنطقة بديلا، لكن الأزمة الحقيقية التي ستضطر الولايات المتحدة إلى التفكير فيها مطولا هي مآلات الوضع السوري، فتحول المجموعات المقاتلة من عناصر جاءت بهدف مقاتلة النظام إلى عناصر تتحول مع مرور الوقت إلى جزء من النسيج المجتمعي السوري الجديد بدأت تجد قبولا في الداخل السوري المعارض بسبب دخول أطراف أخرى مع النظام، كحزب الله والميليشيات الإيرانية، وحتى القوى العراقية التي طرأت أخيرا على المشهد، وهذا بالطبع يشكل صفحة جديدة على مستوى الصراعات ذات الطابع غير الرسمي، بمعنى أن التأثير على هذه المجموعات ليس بيد أي دولة مهما زعمت ذلك، كما أن ما تملكه الولايات المتحدة إزاء أزمة الإرهاب كما تحدثت سابقا مرات كثيرة هو الحلول الأمنية والعسكرية القصيرة التي باتت أضرارها أكثر من جدواها، يكفي أن تتأمل السلوك الأميركي تجاه «قاعدة اليمن» التي لا تخرج عن إطار الطائرات من دون طيار والتي أثبتت فشلها، فرغم محدودية قضائها على عناصر «القاعدة»، فإنها عامل جذب واستقطاب للمقاتلين من الداخل والخارج، كما أن إدراك التنظيم حجم التعاون الأميركي والنظام اليمني الجديد والضعيف نسبيا جعل «القاعدة» تقوم بتغيير استراتيجيتها واستهداف مبان حكومية ذات طابع عسكري.

خلاصة القول أن إطلالة متعالية من فوق على المنطقة وبمنطق براغماتي نابع من عدم الرغبة في تكرار الأخطاء، لا يعني الإمساك بكل التفاصيل الصغيرة، والدرس الليبي يمنحنا الكثير مما يجب الوقوف عنده.

[email protected]