المملكة وإيران ورؤيتاهما لمستقبل العالم العربي

TT

يمر العالم العربي بأسوأ حالاته، ويتساءل كثيرون: لماذا يعيش عالمنا العربي هذه الحالة؟ وكيف يمكن خروجه منها؟ الجواب عن السؤال الأول ممكن، لأن هناك كثيرا من الأسباب المتفق عليها؛ بدءا من الوضع الاقتصادي المتردي، ومرورا بالوضع الاجتماعي المتفاقم، وانتهاء بحالة العجز السياسي على المستويين الداخلي والخارجي. أما الجواب عن التساؤل الثاني، فقد يختلف عليه كثيرون، وبالتحديد على كيفية الخروج منه وبأقل الخسائر. هذا الاختلاف متشعب ويشمل قضايا كثيرة؛ منها الداخلية المنحصرة في الاقتصادي والدستوري، والخارجية المتعلقة بالسياسة الخارجية، وبالتحديد الصراع بين دول الإقليم على صياغة العالم العربي.

يمكن النظر للعالم العربي من منظارين: منظار دول المغرب العربي، ومنظار دول المشرق العربي؛ فدول المغرب العربي قلما شاركت في صياغة هذا العالم، بل فضلت البقاء بعيدا، ولكن من دون أن تتخلى عن هذا العالم، ما عدا ليبيا خلال فترة حكم الرئيس القذافي الراحل. أما دول المشرق العربي، فكانت دائما في طليعة المنادين بتوحيد هذا العالم، وفي طليعة العاملين لرسم مساره، بدءا بالرئيس جمال عبد الناصر والملك فيصل بن بعد العزيز، ومرورا بزعماء ورؤساء من أمثال صدام حسين وحافظ الأسد. وقد شهد المشرق العربي بعد انتفاضة الربيع العربي انهيارا كبيرا لدول تاريخية لعبت دورا كبيرا في مسار الأمة مثل العراق وسوريا، ومصر، ولم يبق فيه إلا دولة واحدة متماسكة وقوية هي المملكة العربية السعودية.

في هذا السياق، وجدت المملكة نفسها مرغمة، لا مختارة، في مواجهة ليس فقط مع التغيرات في العالم العربي، بل مع دول إقليمية كبرى تحاول أن تمد اليد لصياغة هذا العالم وفق مخططاتها وأهدافها. هذه المواجهة تنحصر بين المملكة وإيران، وإن لم تكن إسرائيل غائبة عنها كليا، إلا أن من مصلحتها أن تلعب حاليا دورا جانبيا وتنتظر النتائج، لذلك، فإن المواجهة بين المملكة وإيران حول العالم العربي تنحصر، كما تبدو، في المحاور الثلاثة التالية: الربيع العربي وتغيير موازين القوى، والسلاح النووي، والمشروع الطائفي.

لم تتوقع القيادة في المملكة الربيع العربي، لكنها شيئا فشيئا تعايشت معه، وأيدت مطالب الشعوب في ليبيا وتونس، وسوريا، وعارضت بشدة إزاحة الرئيس مبارك لدواعي استراتيجية. إيران، في المقابل، سارعت إلى تأييد المظاهرات في دول الربيع العربي، وبالتحديد في مصر، وعدّتها دليلا على صدق سياستها الرافضة لسياسات تلك الدول؛ لكن سرعان ما تبين زيف الادعاء الإيراني عندما وصلت رياح التغيير إلى سوريا.. هنا وجد البلدان الإقليميان المملكة وإيران نفسيهما على طرفي نقيض: إيران تؤيد الإطاحة بمبارك وتعارض الإطاحة بالأسد، والمملكة تؤيد الإطاحة بالأسد وتعارض إزاحة مبارك لكنها قبلت، كما صرح وزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل، بما يقرره الشعب المصري.

لكل من هذين البلدين أسبابه المبررة لهذه السياسة؛ المملكة ترى أن مصر بقيادة مبارك كانت ركنا لحماية الأمن العربي والأمن الخليجي من الهيمنة الإيرانية، وإيران ترى في إزاحة مبارك فتحا لسياستها في العالم العربي.. وترى المملكة أن الإطاحة بالأسد تحرم إيران من ورقة التلاعب في الداخل العربي، وأنها انتصار لمطالب الشعب السوري. وفق هذه المعادلة ليس صعبا معرفة لماذا أيدت المملكة إزاحة الإخوان المسلمين الذين مدوا اليد لإيران وحاولوا المساومة معها حول سوريا، ويمكن أيضا معرفة سبب غضب إيران من موقف المملكة تجاه الأسد ودعم معارضيه.

ولهذا، فإن إزاحة «الإخوان»، قد حرمت إيران من ورقة كان من الممكن التلاعب بها، وبالتالي أصبح النزاع محصورا في الورقة السورية التي تكلف إيران كثيرا من الأموال والدماء. كما أن الربيع العربي حرم إيران من اللعب بالورقة الفلسطينية، ولم يُحسِّن ذلك، في الوقت نفسه، فرص المملكة لتعزيز نفوذها لدى الطرف الفلسطيني الخارج عن نفوذ إيران بسبب الأزمة السورية.

فوجئت المملكة، كما تبين، بالانفتاح الأميركي على إيران، وفوجئت أكثر بسرية المفاوضات بينهما، وكانت النتيجة أن أميركا عقدت مع إيران اتفاقا مؤقتا يسمح لإيران بالخروج من عزلتها تدريجيا، على أن تُحل مشكلة البرنامج النووي الإيراني في غضون ستة أشهر وضمن اتفاق نهائي وشامل. هذا الاتفاق المؤقت أعطى إيران فرصة ذهبية لإعادة ترتيب أوضاعها الاقتصادية ومن دون أي ضمانات بتغيير سياساتها الخارجية. كما أنه، كما تبين، سمح لإيران بأن تحتفظ بحق التخصيب، ولكن بنسب لا تتجاوز خمسة في المائة.. وهذا يُعدّ نصرا للسياسة الإيرانية في الشكل وتراجعا في المضمون.

هنا تجد المملكة نفسها أمام مشكلتين: مشكلة الحليف الأميركي الراغب في التسوية بأي ثمن، ومشكلة خطر احتفاظ إيران بالقدرة على التخصيب، واستمرارها في سياسة التدخل في العالم العربي. عالجت المملكة الخطر الأول بتذكير الحليف الأميركي بتعهداته، وبأنها في حال نكوصه، فستكون قادرة على الدفاع عن نفسها، ولن تقبل بأي تهديد لأمنها.. يمكن القول إن هذا الخطر قد تلاشى بعدما أكد الحليف الأميركي أن أمن المملكة أولوية له، وأن أي حل يجب ألا يكون على حسابها. لكن خطر التدخل الإيراني لا يزال قائما، وترى المملكة أن إيران تناور على الأميركي والأوروبي بمظهر الانفتاح بينما تمارس سياسة التدخل وبشدة أكبر في الداخل العربي.

ولا تتخوف المملكة من إيران بقدر ما تتخوف من تلاعب إيران بحلفائها الغربيين وإقناعهم بأنها عنصر استقرار في المنطقة، وأنها بما تملكه من أوراق قادرة على إعادة الاستقرار إلى المنطقة، ومحاربة الإرهاب الإسلامي (السلفي المتطرف) الذي عزته إيران، على لسان الأمين العام لحزب الله، إلى المملكة. هذه السياسة الإيرانية بدأت تعطي مفعولها غربيا، وتحاول القيادة الإيرانية أن تلتف مجددا على المملكة من خلال قضم ما يسمى الحلفاء الإقليمين للمملكة عبر تأكيداتها أنها بصدد سياسات جديدة وأنها راغبة في الحوار، وبالتحديد مع المملكة. تحاول إيران فتح سياسة الإغواء، لكنها تجد صدودا من المملكة التي أكدت أن ما يثبت نيات إيران ليس الكلام بل الأفعال، وأن عليها أن تبدأ أولا بتغيير سياستها في سوريا، وطمأنة دول الإقليم إزاء مشروعها النووي. هذا المطلب السعودي صعب على إيران تحقيقه، لأنها لن تتخلى عن الورقة السورية، ولا يمكنها التراجع عن التخصيب.

وهكذا فإن المملكة أمام خيارين: متابعة المواجهة على الأرض السورية، والتشديد على أن برنامج إيران النووي يجب أن يكون سلميا، وأنها ستمارس هي الأخرى حق التخصيب في حال قبول الأسرة الدولية بهذا الحق لإيران.

مهما حاول الطرفان إنكار جوهر الصراع، فإنه في حقيقته صراع على صياغة العالم العربي من خلال تغيير معادلة تاريخية تمثلت فيما يسمى «النظام العربي السني»؛ وإيران تحاول أن تكسر هذه القاعدة من خلال إقامة «النظام الشيعي» بعدما تمكنت من العراق، وسوريا، ولبنان وكذلك الإمساك بالورقة الفلسطينية ولو جزئيا. لكن الربيع العربي كشف السياسة الإيرانية، ولم تستطع إيران، بسبب عمق مصالحها، التستر على الغطاء المذهبي، فكان موقفها ثابتا في العراق وسوريا، وانهار في فلسطين بعدما رفضت حماس دعم النظام السوري، وفضلت الخروج مما يسمى «معسكر الممانعة». بدت إيران مربكة جدا في هذا الصراع، لأنها تعرف أن تركه على غاربه سيؤدي إلى خسارته في عالم سني مترامي الأطراف، ولذلك تحاول قدر ما أمكن الالتفاف وبالتحديد على المملكة الرافضة لتمددها من خلال التعاون مع الدول السنية المجاورة مثل تركيا، ودول الخليج العربي، وإضعافها. هذه السياسة الجديدة التي وجدت بعض القبول في تركيا وبعض بلدان الخليج، من شأنها أن تحدث نوعا من الإرباك، لكن لن تؤثر كثيرا في مسار الصراع. ما يبدو مؤكدا أن المعركة بين الطرفين لن تكون قصيرة، ولا يمكن حلها إلا بتراجع إيران عن مشروعها الطائفي الهادف إلى الهيمنة.

لا شك أن السياسة السعودية الخارجية تواجه عبر هذه الملفات الثلاثة تحديات كبرى، ولا شك أن بقاء مصر خارج المعادلة سيزيد من صعوبة المواجهة ومن تكاليفها مع إيران. ويبدو أن المملكة حسمت أمرها بخصوص الربيع العربي والموقف منه، واعتمدت في الملف النووي الإيراني سياسة الترحيب المشروط بعدم القدرة على التخصيب، ووقف التدخلات في العالم العربي، وفي المشروع الطائفي قررت المملكة المواجهة المباشرة.. ولكن مع هذا كله، فإن المملكة بحاجة إلى جهد أكبر لجمع الشمل الخليجي أولا، وإعادة النظر في أوضاع العالم العربي، وبالتحديد ما يجري في مصر، والتعديل الملائم في سياساتها، ولا بد لها من الثبات مهما كانت الصعاب في مواجهة المناورات الإيرانية، لأن المعركة لا تعني إيران فقط، بل تتعلق بحماية العالم العربي ووقف الهيمنة الإيرانية عليه.