في رثاء نيلسون مانديلا

TT

قلة منا حتى لو كانوا أكثر الناس تفاؤلا، بل تقريبا لا أحد ممن كانوا على دراية بالسياسة الدولية في ستينات وسبعينات القرن الماضي، أعتقد أننا سنشهد نهاية الفصل العنصري، والتحول إلى حكم ديمقراطي تقوده الأغلبية في جنوب أفريقيا.

يعود الفضل في حدوث ذلك إلى نيلسون مانديلا، الذي كانت وفاته حدثا جرى الاحتفاء به حول العالم بما يتناسب مع قدر الرجل.

وبلوغ ذلك بشكل سلمي، يجب أن يُنسب بأكمله تقريبا إلى مانديلا وصموده، وإلى الشريك المفاوض الشجاع فريدريك ويليام دى كليرك، آخر رئيس وزراء أبيض لجنوب أفريقيا.

ولكن ربما يكمن أعظم إنجازات مانديلا، في مساعدة جنوب أفريقيا لتحاشي الانزلاق إلى الحكم الاستبدادي والفقر الذي لقيته زيمبابوي.

لقد منحته الشجاعة ورباطة الجأش التي تحلى بها مانديلا على مدار 27 عاما أثناء فترة سجنه، من دون السماح للكراهية بأن تتغلغل إلى روحه، مكانة مرموقة. في أحد الأجزاء الأكثر حيوية من سيرته الذاتية، كتب مانديلا عن إخفاقه في الوفاء بالتزاماته العائلية بسبب الصراع المتضارب بين التزاماته نحو أسرته والتزاماته تجاه دولته وشعبه: «كان الأمر بسيطا، ومع ذلك كان غامضا، في مثل تلك اللحظة التي تسأل فيها الطفلة والدها: لماذا لا يمكنك أن تكون معنا»؟ وحينئذ لا بد أن يطلق الأب هذه الكلمات: «هناك أطفال آخرون مثلك بل هناك الكثير والكثير منهم... ثم يبدأ صوت الشخص في الانخفاض تدريجيا حتى يتوقف عن الكلام».

أما ثاني أكبر إنجازات نيلسون مانديلا فكانت الموهبة التي تمكن بها من التفاوض مع دي كليرك، على مدى السنوات الأربع الصعبة، التحول إلى حكم الأغلبية السوداء.

وكرئيس للبنك الدولي، شرفت مرة بمقابلة خاصة مع مانديلا، كان الانطباع الذي يغمرني هو عن رجل يشع صفاء وواثق بنفسه إلى حد بعيد ومتوافق مع ذاته، لكنه مهتم بشكل كبير بمحاوريه. ما من شك في أن تلك الميزة ساعدته كثيرا في المفاوضات، لكنه ما كان لينجح لو لم يتحلَ بصلابة أسفل ذلك السطح الهادئ. كان يتميز بتلك التوليفة من القوة والمرونة التي تشكل علامات، ودبلوماسية ناجحة.

يعود بعض الفضل في هذا الإنجاز الكبير أيضا إلى دي كليرك الذي قاسمه مانديلا فيما بعد جائزة نوبل للسلام. لكن أبرز إنجازات مانديلا الاستثنائية، والذي كان خاصا به هو، كان تلك المصالحة المتميزة التي تمكن من تحقيقها عبر الانقسام العميق للعداء العنصري.

تعهد مانديلا في حفل تنصيبه رئيسا لجمهورية جنوب أفريقيا عام 1994 أن «يحرر كل شعبنا من عبودية استمرار الفقر والحرمان والمعاناة، والتمييز بين الجنسين، وأنواع التمييز الأخرى. وأن هذه الأرض الجميلة لن تشهد على الإطلاق أي نوع من اضطهاد مرة أخرى».

وأوضح من خلال أفعاله أنه يعني جميع الأجناس، لا السود فقط. فقام بتأسيس لجان الحقيقة والمصالحة لتحقيق التوازن بين الحاجة إلى العدالة في جرائم النظام القديم، مع ضرورة تجنب خلق مظالم جديدة، يمكن أن تصبح عقبات أمام مستقبل البلاد.

كان عمله الأكثر إبداعا ما تحلى به من دبلوماسية شخصية (ومسرح سياسي) في التواصل مع فريق لعبة الرغبي، سبرينغبوكس، الذي يشكل البيض غالبيته. كان الفريق الذي يمثل رمزا للبيض وخاصة الأفريكانيين، وموضع حنق الأغلبية السوداء. لكن مانديلا لم يرفع عنهم الحظر الدولي وفقط، لكنه سعى إلى تنظيم كأس العالم للرغبي إلى جنوب أفريقيا عام 1995ـ في لفتة رائعة تلك التي أداها مورغان فريمان في فيلم إنفكتوس ـ ونزل مانديلا إلى أرض الملعب قبل المباراة النهائية بين سبرينغبوكس ونيوزليندا مرتديا قبعة سبرينغبوكس. أصابت الجماهير البيضاء حالة من الفرحة العارمة، ويقول زميل مانديلا السابق في سجن جزيرة روبن، طوكيو سكسويل: «فهمت أكثر من أي وقت مضى أن النضال من أجل التحرير لم يكن يهدف إلى تحرير السود من العبودية، بل في تحرير الناس البيض من الخوف».

لكن إنجاز تلك المصالحة لا يزال غير مكتمل، إذا لم يعد الخط الذي يقسم عنصريا تماما، فلا يزال هناك انقسام عميق بين ما يشكلان دولتين منفصلتين تعيشان جنبا إلى جنب؛ الأغنياء والفقراء. وعلى الرغم من أن الأغنياء لم يعودوا بيضا بشكل خالص، إلا أن الفقراء جميعهم من السود، وهذا الانقسام يضم مكونات الانفجار المحتمل أو فرصة يستغلها الغوغائيون.

في ختام سيرته الذاتية المتميزة «مسيرة طويلة إلى الحرية»، كتب مانديلا: «عندما خرجت من السجن، كانت مهمتي هي تحرير المعذبين وجلاديهم معا. لقد اكتشفت السر أنه بعد صعود تل ضخم، يكتشف المرء فقط أن هناك مزيدا من التلال ينبغي عليه تسلقها. لم أجرؤ على التباطؤ، لأن مسيرتي الطويلة لم تنتهِ بعد».

لقد انتهت مسيرة مانديلا الآن، لكن دولته لا تزال تصارع تحديات كبرى. ولأجل جنوب أفريقيا وبقية العالم وخاصة الدول الأفريقية الأخرى التي استفادت كثيرا من نهضة جنوب أفريقيا، لا يسع المرء سوى الأمل في أن يلهم نموذج مانديلا خلفاءه، لكنه لم يعد الآن قادرا على القيام بذلك بصورة شخصية.

* أستاذ زائر في معهد «أميركان إنتربرايز»، ورئيس البنك الدولي السابق