يحيا التلغراف!

TT

يعج عالمنا في هذه الأيام برسائل الإنترنت بكل ما تحتويها من أخبار مهمة وطرائف لذيذة وسخافات وكذبات وفكاهات. حل الإنترنت محل التلغراف في أيام زمان. لم يكن مخترع التلغراف، العالم الأميركي مورس، يتوقع لاختراعه هذا أن يحمل في ذبذباته الطرائف والتقليعات والشنائع التي ضج الجمهور بها. دخل الكثير منها قاموسنا السياسي، مثل «أنا وعشائري». اعتدنا على نشرها كلما تلبدت سماء البلاد بالمشاكل.. «أنا وعشائري نشجب مواقف أميركا نحو.. ». تكررت النغمة فراح الظرفاء يسمون زعماءهم بـ«بني يشجب»! ومثلها عبارة: «سيروا ونحن وراءكم».

سمعنا بها على الراديو أو قرأناها على صفحات الجرائد. فانطلق الظرفاء يلعبون على أنغامها.. أنا وعشائري معكم. من هو هذا الشيخ الذي يعبئ عشائره لدعم الحكومة؟ تقرأ فإذا به حمودي الشحاذ أمام مقبرة باب المعظم.

مر العراق في الخمسينات بأزمة اقتصادية. كلف الوصي على العرش، الأمير عبد الإله، أمير اللواء نوري الدين محمود، بتأليف حكومة جديدة تعالج الأزمة، اعتقادا منه على ما يظهر أن الأزمات مثل الحروب تتطلب عساكر. وقع رئيس الحكومة بنفس الوهم، وهو أن كل ما يلزم لحل الأزمة هو تسعير البضائع بما يجعلها في متناول الفقراء. أصدر قائمة طويلة بالمواد الغذائية، بما فيها الشلغم (اللفت) وأسعارها الرسمية. اختفت السلع من السوق. فبعث الظرفاء ببرقية للإذاعة: «تسعيركم للشلغم أثلج صدورنا!». ليس من المعتاد للعساكر أن يفهموا النكتة، فواصلت الإذاعة بث البرقية.

ولكنها كانت برقية محترمة بالنسبة لبرقية أخرى طيرها العراقيون إلى راديو «صوت العرب» في القاهرة. كان العراق ومصر قد دخلا في عهد عبد الناصر وعبد الكريم قاسم في نزاع مرير. انهمكت إذاعات الطرفين بإذاعة برقيات التأييد والشجب. اغتنم الظرفاء في بغداد الفرصة فبعثوا ببرقية إلى «صوت العرب» كلها مديح للرئيس المصري وقيادته الحميدة للوحدة العربية. كانت كلها كلاما جميلا، لا عيب فيه سوى أن مصدر هذه البرقية التأييدية والحماسية كان «حسنة ملص». وكانت حسنة ملص امرأة معروفة بين العراقيين كامرأة ساقطة وسمسارة. لم يدرك أحمد سعيد، ذلك الإذاعي الشهير، حقيقة هويتها فراح يواصل إذاعة البرقية بصوته المجلجل وبكل وقار وجد، فيقول: «المناضلة حسنة ملص»! وراح أهل بغداد يغصون بالضحك على هذا المقلب.

وإلى الجنوب من بغداد، منعت السلطات السماكين من صيد السمك في موسم توالدها، رأفة بالسمكات الأطفال. فما الذي يستطيع أن يفعله من لم يتعامل في حياته بشيء غير صيد السمك؟ وصيد السمك مثل صيد المناصب، مهنة اختصاصية. اجتمعوا وتشاوروا في الأمر وقرروا الضغط على المسؤولين لرفع هذا الحيف عنهم. أجمع «بنو يشجب» على إرسال برقية تشجب هذا المنع من السلطات. بيد أن أحد السماكين كان على ما يظهر سماكا وأديبا بليغا بعين الوقت، فحرر البرقية إلى رئيس الوزراء الدكتور محمد فاضل الجمالي بهذه الكلمات:

«هل ترضى حكومة فخامتكم بأن يموت أبناء الشعب العراقي حتى يعيش أبناء السمك؟».