أميركا في الشتاء

TT

طوال نصف قرن لعبت أميركا في العالم دورا غير متزن أو متوازن. خرجت منتصرة في الحرب العالمية لتجد أن حليفها السوفياتي أصبح ألد أعدائها، يريد بسط الشيوعية في أنحاء الأرض، بدءا من الريف الأميركي وهوليوود ونيويورك. طار صوابها أمام الهاجس الشيوعي الذي تجاوز، باردا، الهاجس النازي المدمر. وصل الشيوعيون إلى كوبا وأعطوا موسكو قاعدة للصواريخ النووية قبالة الساحل الأميركي. ووصل الأميركيون إلى سايغون وكمبوديا واللاوس. انقسم العالم إلى ألمانيتين، وصينين، وكوريتين، ومعسكرين وثقافتين ونظامين سياسيين؛ واحد يسمى الحر، والثاني سماه تشرشل، الستار الحديدي.

عشنا في هذه المنطقة في قلب هذا الصراع. بسبب تأييد أميركا لإسرائيل رفضنا أن نقبل الدور الحاسم الذي لعبته في حرب السويس. وكان كل من ينتقدها عميلا. ومن يبالغ في انتقادها كان عميلا مقنعا يريد أن يخبئ عمالته لكي يتسنى له التجسس على العبقريات العربية والاختراعات ومصانع الطائرات والمختبرات التي تتدفق منها الاختراعات الطبية كل يوم.

لم تكن الحماقات الأميركية بريئة أيضا. انقسم الداخل الأميركي بين «كارتيلات» صناعية عسكرية تتاجر بالسلاح، مثل أصغر مهرب بلا أخلاق، وبين دبلوماسية محدودة الأثر. لخص الحال كتاب عنوانه «الأميركي البشع»، صار فيلما من بطولة مارلون براندو (1963). نمت الأحزاب الشيوعية في أوروبا على نحو شديد. استخدم السوفيات الآيديولوجيا في وجه القوة والثروة.

لم يطل مفعول الآيديولوجيا. انهارت الشيوعية فوق وعودها المسكينة، وتراجع الروس دولة إقليمية لا ذكر لها. وحدث اختلال من نوع جديد: صار العالم أحاديا للمرة الأولى منذ قرون. أول من تسربل في وعي أحكام الوضع الجديد، كان الأميركيون. في هذا الفراغ ظهرت قوة، أو مجموعة قوى غامضة، تحت اسم واحد هو «القاعدة». لثاني مرة في تاريخها وجدت أميركا عدوا يقاتلها في الداخل، فكان خيارها الخروج إلى مقاتلته في «أرضه». اختل الميزان من جديد.

يحدث اختلال من نوع لا مثيل له مع انسحاب أميركا «الأوبامية» من كل مكان واندفاع روسيا «البوتينية». من كان يتصور أن المطلب سوف يكون بقاء أميركا لا انسحابها، وأن الغضب سوف يكون بسبب «تخليها». أجهضت أميركا «الربيع» العربي في مصر، وتركتها غرقى في يومياتها وأخرجتها من المعادلة العربية الكبرى. وتبلبلت في ليبيا. وغابت عن الوعي في سوريا، مقدمة ومحجمة، مساهمة في البلاء لا في الحل. ورضخت في العراق لشروط المهزوم لا لتوافق التسوية.

في خروج أميركا ضعيفة، وقدوم روسيا لا أصدقاء لها ولا معارف ولا وجود إلا اللمم، يختل التوازن العالمي مرة أخرى. رجل متجمد في الكرملين، ورجل ذائب في البيت الأبيض. والقوى الغامضة التي كانت تضع قوة أميركا في الاعتبار، تنبت من كل مكان. لقد تعود العالم على أميركا قوة درجة أولى. وهو لا يعرف كيف يتصرف معها درجة ثالثة.