قرار كان ينتظر إعلانا

TT

قرار الإدارة الأميركية، والحكومة البريطانية، وقف المساعدات «غير الفتاكة» للمعارضة السورية لا يبدو قرارا تكتيكيا استوجبته تطورات ظرفية بقدر ما يوحي بأنه قرار استراتيجي متخذ منذ فترة غير قصيرة و«مركون» بانتظار المبرر المناسب للإعلان عنه.

بعيدا عن أي جدل بيزنطي حول مسؤولية سياسة التسليح الأميركية والبريطانية «الخجولة» للجيش السوري الحر في تعزيز الكفة العسكرية للفصائل الإسلامية المتشددة الدخيلة على الثورة الشعبية السورية، تبدو ردة فعل واشنطن ولندن حيال سيطرة مقاتلي «الجبهة الإسلامية» على مناطق واسعة في شمال سوريا كانت في عهدة الجيش السوري الحر، أقرب ما يكون إلى منطق المقولة الشعبية اللبنانية: «طلبناها من الله... فجاءتنا من عبد الله».

بعد نحو ثلاث سنوات على خروج السوريين بمظاهرات شعبية صاخبة تطالب باستعادة حقوقهم الديمقراطية السليبة، يصعب تبرئة التلكؤ الغربي في دعم هذه المطالب من تحول الانتفاضة الشعبية إلى حرب أهلية سافرة، ولاحقا إلى حرب مذهبية تتواجه على جبهتيها تنظيمات وفصائل إسلامية متشددة.

تهميش «الجيش السوري الحر»، الذي يعتبره الغرب التنظيم الثوري الوحيد غير المذهبي المنطلق، لم يأتِ من ساحات القتال بقدر ما أتى من عواصم الغرب. ويكفي دليلا على خفوت صوت الدعم الغربي للثورة السورية التذكير باختفاء دعوات واشنطن ولندن التي كانت توجه سابقا إلى الرئيس السوري بشار الأسد مطالبة بتنحيه عن السلطة، وعودة العاصمتين عن تلميحاتهما السابقة بتحقيق رفع نوعي لمستوى دعم الجيش السوري الحر بحيث يشمل سلاحا متقدما، وأخيرا لا آخرا تراجع الرئيس الأميركي، أوباما، عن تهديداته بضرب أهداف عسكرية حيوية للنظام السوري بعد الإقرار بتخطيه «خطوطه الحمراء» واستعمال السلاح الكيماوي في غارات طالت مدنيين، رغم أن التحضير للضربة العسكرية بلغ مرحلة حشد أسطول بحري قتالي في مواجهة الساحل السوري.

قد لا يكون من المبالغة القول بأن موقف واشنطن من الانتفاضة السورية لم يتجاوز ما يسمونه في الغرب «Lip Service» (التملق الكلامي)، وقد يكون قرار تعليق المساعدات «غير الفتاكة» للجيش السوري الحر رسالة أولية عن نية واشنطن قصر «مساعداتها» المستقبلية على المزيد من التملق الكلامي الكافي لإبقاء النزاع السوري مصدر استنزاف دبلوماسي ولوجيستي لروسيا، واستنزاف مالي وبشري لإيران ولكل التنظيمات الإسلامية المتشددة، سواء أكانت «تجاهد» إلى جانب النظام أو ضده... وربما لأطول فترة زمنية ممكنة.

على الصعيد الروسي، وبمنظور المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، بقدر ما يطول النزاع السوري بقدر ما يحبط تطلع موسكو لتكريس وجود ثابت لها في المنطقة في وقت تشعر فيه كل دول الشرق الأوسط العربية بأن واشنطن خذلتها سياسيا.

ولأن تبوؤ دور البديل للوجود الأميركي الاقتصادي والتقني والتسليحي في الشرق الأوسط لن يكون سهلا على روسيا في المدى القريب، فإن باستطاعة إدارة الرئيس أوباما مواصلة دبلوماسية الانكفاء عن موقع اللاعب المباشر في المنطقة دون مخاطر تذكر.

وعلى الصعيد الإيراني، بقدر ما يطول النزاع السوري بمعطياته الراهنة التي تصب في خانة تأجيج الأحقاد السنية - الشيعية، بقدر ما يعرقل مساعي طهران لبسط هيمنتها السياسية على الشرق الأوسط. وفي حال التزمت إيران بالتنازلات النووية التي وافقت عليها مع «الدول الخمس زائد واحد» في جنيف فمن شأن هذا الالتزام أن يكمل مهمة «احتواء» إيران... دون تدخل مباشر من الولايات المتحدة.

إلا أن السؤال يبقى: إلى أي مدى يستطيع الحليف التاريخي للولايات المتحدة، أي أوروبا الغربية، التغاضي عن تحول سوريا إلى ساحة «مناورات بالذخيرة الحية» للفصائل الإسلامية المتشددة فيما يتكشف لدولها أن الكثير من مواطنيها يحاربون في صفوف هذه الفصائل؟ واستطرادا، إلى أي حد يمكن للولايات المتحدة أن تتغاضى عن كون سوريا الملعب الخلفي لحليفها الأوروبي (كي لا نستعمل تعبير الدبلوماسية الروسية المفضل، «الجوار القريب») وأنها بحكم واقعها الجغرافي - السياسي معرضة للإصابة برذاذ المعارك الأصولية فيها؟