الربيع العربي في «فخ الهوية»!

TT

على خلاف ما يذهب إليه كثيرون، يبدو الربيع العربي مفاجأة تاريخية، والدولتان اللتان أطيح بنظاميهما كانتا تشهدان صراعا عميقا يمتد لعقود بين رؤيتين ونمطي حياة، وثمة من يرى - وهو محق - أنهما كانتا ساحتي صراع هوية عميق!

ومع الدساتير دائما تطرح الأسئلة الأولى والقضايا المؤسسة، لكنها في الحالتين المصرية والتونسية، تطرح بالشكل الخطأ، وتتحزب القوى المختلفة تجاهها بالطريقة الخطأ. وأول الأخطاء هو الاصطفاف الآيديولوجي على قاعدة «إما أنا أو هو»، وهو ما يترجم في الحالتين المشار إليهما بالاصطفاف على قاعدة «الهوية المغلقة»، وأصل الداء هنا مزدوج؛ فـ«الهوية» كمفهوم تتداخل بشكل كبير مع «المرجعية»، وهما موضوعان متشابهان يتبادلان التأثير والتأثر، لكنهما - في النهاية - متمايزان.

الوجه الثاني للعملة أن كلا الفريقين المتصارعين حول «الهوية» يعيد إنتاج مقولة «نهاية التاريخ» الشهيرة المثيرة للجدل، حيث يستنبط كل منهما مفهوما للهوية معدا مسبقا يرى ضرورة الإبقاء عليه من دون تغيير، ربما إلى الأبد!

ولهذا النزوع الإطلاقي جذور من بينها ثقافة زمن الانقلابات العسكرية التي أعقبت زوال الاحتلال المباشر، حيث رفعت الأنظمة شعارات حولت فيها لحظة تأسيسها إلى أيقونة، بدءا من انقلابات حزب البعث صاحب «الرسالة الخالدة» وانتهاء بانقلاب معمر القذافي صاحب شعار «الفاتح أبدا». وعلى الجانب الآخر، وفرت المرجعية الدينية للقوى الإسلامية الإحساس نفسه بالقداسة والنزوع الإطلاقي، بينما قضية الهوية كلها في مساحة ما هو «نسبي». ولم يكن من الصعب على أي من الفريقين أن يجد بمنطق انتقائي ما يعزز وجهة نظره بوجهيها الديني والعلماني، وغالبا كانت الشواهد والأمثلة تنتقى من تجارب شعوب اليابس القاري الأوروبي.

وقضية الهوية في الحقيقة قضية ثقافية بامتياز ومحاولة صياغتها في قوانين تفتح أبواب الجحيم، وتبدو محاولة عبثية لتبسيط ما هو مركب والإمساك بما هو زئبقي. والسؤال نفسه عندما طرح في تجارب الأمم الغربية كانت له إجابتان؛ أوروبية - فرنكفونية بالأساس، لها طبيعة أحادية وإقصائية وطاردة، وأخرى أنغلوسكسونية تتسم بالتركيب والاستيعاب والرغبة في، وأيضا القدرة على، قبول التعددية وإدارتها والنجاح بناء على معطياتها.

ويبدو الفرق عمليا أكثر وضوحا في المسافة الكبيرة بين التفاعل الإيجابي مع «الآخر» في التجربة الأميركية التي تفخر بكونها «بوتقة صهر» تقبلت جماعات سكانية من أصول مختلفة: إيطالية وصينية وآيرلندية ومشرقية جميعها لها شارات هوية شديدة الخصوصية، فضلا عن تجاوزها إشكالية الزنوج على النحو الذي جعل تجارب مثل: كولن باول وكوندوليزا رايس، وفي النهاية باراك أوباما، نماذج يمكن الاستفادة بها في إدارة التنوع، ويمكن استلهام دروسها، لكن العقل السياسي العربي - والحال في مصر وتونس نموذج عملي - اختار بشكل شبه تام أن يستلهم التجربة الأوروبية في قضية الهوية، وهي تجربة مصابة بـ«عسر هضم» تاريخي!

ورغم أن الغياب الطويل لتداول السلطة في هذه البلاد لعب دورا كبيرا في غياب التقاليد الديمقراطية، وهو مؤثر لا يمكن إغفاله، فإن التأمل الهادئ في لغة الخطاب ومنطق التحليل ووجهة الاصطفاف يجعلنا نرجح بقوة أن المشكل في الأصل ثقافي، وأن «الثبات» هو المفضل في قضايا كانت على امتداد التاريخ محكومة بالتغير، وكل محاولات السيطرة عليها بالنصوص القانونية كانت تؤدي إلى نتائج معاكسة، حيث تتحول المشكلة إلى أزمة إرادة أو حتى «صراع وجود»، وعندئذ تصبح بعض رموز الهوية «مقدسة» عند فريق، و«مدنسة» عند خصمه، وعند اتساع مساحة القداسة والدنس عن حدودها الطبيعية، فلا توجد صيغة محتملة إلا الحرب!

ولعل أحد الدروس المستفادة من الدراسة الرائدة عن الهوية «الهوية والعنف» لأماراتيا سين، أن الأمم التي تتعامل مع الهوية بوصفها «قدرا» تجعلها سببا للصراع. وقد توقفت طويلا - منذ سنوات - أمام عبارة للمفكر الإسلامي المصري المستشار طارق البشري يصف الهوية فيها بأنها «قدر». وما صاغه البشري مترسخ في وعي الحركة الإسلامية المعاصرة بشكل شديد العمق. وفي المقابل تتعامل شرائح واسعة من النخبة الليبرالية مع قضية الهوية بالقدر نفسه من الإطلاق والتقديس، لكن في الاتجاه المعاكس.

ومع هذا الوزن النسبي المبالغ فيه لقضية الهوية، ومع تحولها إلى موضوع للصراع السياسي على قاعدة «إما أنا أو هو» تزيد أهمية ما هو «جماعي» على ما هو «فردي» ويتغلب التضامن الغريزي على الميل إلى التفرد والتميز، وبالتالي تضمر فكرة «المواطنة». ومع اتساع المواجهة واستطالة أمدها تتحول المجتمعات إلى جموع يحركها الحنين ويؤلمها الاختلاف، وغني عن البيان أن الديمقراطية تتجذر - فقط - بقدر كاف من التوازن بين الفردي والجماعي. وطبعا يراها البعض ملازمة للفردية المطلقة!

والمستقبل في الحقيقة مساحة إمكان عريض تستثمرها اختياراتنا أو تضيقها، وما هو باد حتى الآن في مهد الربيع العربي أن الحشد أوفر حظا من الفهم، وأن بناء الأسوار والقلاع والحصون الفكرية هو المحرك الرئيس، أما بناء الجسور فليس سوى شعارات تستحضر للإيهام بأننا نتحدث بلغة تعددية. لكن التعددية ثقافة ونهج حياة قبل أن تكون أدبيات نرددها جميعا بحماس، ونتنكر لها ببرود!

* مؤلف وباحث مصري