أمة تتمزق

TT

تراجعت أخبار الدول العربية من عناوين كبيرة في وسائل الإعلام الغربية إلى زوايا صغيرة في الصفحات الداخلية، بعد اتفاق إيران مع الدول الكبرى ولم يبق منها سوى عنوانين؛ اتفاق جنيف النووي ومؤتمر جنيف القادم حول سوريا. ولا عجب في ذلك. فلقد مل العالم من الشرق الأوسط وأزماته وحروبه وتقاتل أبنائه المستمر على السلطة.

إن الشرق الأوسط يعيش، اليوم، وفي آن معا، حروبا ساخنة وفاترة وباردة، متداخلة في بعضها البعض. فما يجري في سوريا لا يمكن وصفه إلا بالحرب الأهلية الساخنة. وما يجري في العراق ومصر ولبنان واليمن وليبيا وتونس والبحرين هو أقرب إلى الحرب الفاترة. (أو حرب الظل كما سماها الباحث يزيد الصايغ) أما ما تبقى من دول المنطقة ونعني تركيا وإيران والأردن والدول الخليجية، فإنها، رغم الاستقرار السياسي والأمني فيها، باتت تعاني من تداعيات تلك الحروب الساخنة والفاترة عليها وأيضا من عودة الحرب الباردة بين الدول الكبرى إلى التبارز في الشرق الأوسط عبرها أو من فوقها. وبعضها لا يخفي مشاركته في الحروب الدائرة في جواره ويدفع ثمن تدخله بشكل أو بآخر.

هذا من حيث أنواع أو درجات الحروب الدائرة، أما من حيث تداخلها في بعضها البعض، فمن الصعب إنكار تأثيراته على الأنظمة الحاكمة ومصائر شعوب المنطقة، وعلى تقييمها من قبل الإنسان العربي لاتخاذ موقف وطني أو إنساني أو عقائدي منها.

ولكي نسمي الأشياء بأسمائها، نحن أمام حرب باردة متجددة بين واشنطن وموسكو في المنطقة كشفت عنها الحرب الأهلية في سوريا. وهي معطوفة على حروب باردة ودافئة إقليمية، امتدت شراراتها إلى لبنان والأردن واليمن والعراق وراحت تتحول إلى شبه حرب مذهبية بين السنة والشيعة، وفارسية - عربية وعرقية وقبلية وإقليمية - انفصالية.

ولا يقتصر الأمر في فداحته على تصنيف هذه الحروب نوعا وحجما، لأن هناك ما هو أفدح وأخطر ونعني العناوين - المحركات الثلاثة التي باتت توجه الحكومات والشعوب العربية والإسلامية أي:

1- تأثير وسائل الإعلام والتواصل الحديثة في التوجيه السياسي للجماهير من داخل وخارج الحدود.

2- نزول الجماهير إلى الشوارع والميادين لتقرير مصيرها ومصير الحكام بالهتافات والعنف.

3- تسييس الدين بحيث أضحى نقيضا للديمقراطية هنا، وسلما للتسلق إلى الحكم، هناك، وتحول الإيمان من الصدور إلى السواعد ومن ثم إلى صراع طائفي ومذهبي سياسي، مكشوف على مستوى المنطقة بأسرها.

والأغرب من تنوع هذه الحروب وتداخلها بعضها بالبعض وتشعباتها، التناقضات بين مواقف محركي خيوطها، من الدول الكبيرة والدول الإقليمية والعربية النافذة. فمواقف الولايات المتحدة والدول الأوروبية والعربية من الأنظمة التي انبثقت عما سمي بالربيع العربي، ولا سيما في مصر وسوريا وليبيا، كانت حافلة بالتناقضات المضيعة للأنظمة وللشعوب. من حيث إن المبادئ الكامنة وراءها اختلطت بالمصالح، والانتهازية بالأهداف الخفية أو البعيدة المدى.

وخلاصة ذلك كله «الضياع»: ضياع دور مصر الرائد في العالم العربي، وضياع «قلب العروبة النابض» سابقا - أي سوريا، وشبه ضياع «قلعة العروبة شرقا» أي العراق، ودخول ليبيا واليمن وتونس في نفق مظلم لا تعرف نهايته.

قد تكون الولايات المتحدة ماضية في نفض يدها من الشرق الأوسط بعد أن باتت كلفة حماية مصالحها - ومصلحة إسرائيل - فيه أكبر من أرباحها وأغلى من فوائد مصالحها. وقد تكون - كما يذهب البعض - اختارت الورقة الإيرانية - الشيعية حليفا استراتيجيا لها بوجه صعود المد السياسي الإسلامي السني والإرهاب الجهادي المتطرف معه، الأمر الذي جعل مصير أنظمة وشعوب هذه المنطقة أوراقا تتلاعب بها أهواء ومصالح الدول الكبرى بالإضافة إلى ثلاث دول إقليمية هي إيران وتركيا وإسرائيل. كل ذلك وارد أو محتمل. أما الراهن والأكيد فهو أن الأمة العربية، بعد قرن من يقظة شعوبها وتحررها من الاستعمار، وتوقها للتوحد، تجد نفسها في مطلع القرن الحادي والعشرين، ممزقة وضائعة، تقاتل شعوبها استبداد حكامها هنا، وتقاتل بعضها البعض هناك، وباتت أشبه بسفينة تمزقت أشرعتها واستسلم بحارتها للعواصف التي تضربها، ولا يعرف القابضون على دفتها نحو أي أفق يتجهون بها.

وفي هذا الوقت، تحقق الحضارة والتكنولوجيا الحديثتان قفزات مذهلة كل سنة، وتنتشر الديمقراطية في معظم أنحاء العالم، وتدخل المعرفة والعلوم كل المنازل والعقول عبر الإنترنت والهاتف والفضائيات، ليستفيد منها البشر.. لا ليستخدمها - كما نفعل نحن - لتمزيق بعضنا بعضا.