فن إدارة مؤتمرات القمة

TT

إدارة مؤتمرات القمة فن يمزج الدبلوماسية بالعلاقات العامة، مع البقاء في طريق استراتيجية المدى الطويل؛ على أرضية تحترم مصالح المشاركين، بلا إضرار بالمصلحة القومية للمضيف.

الكويت نجحت ببراعة في إدارتها للقمة الرابعة والثلاثين لدول مجلس التعاون الخليجي، بعد أسبوعين فقط من استضافتها لواحد من أضخم التجمعات العابرة للقارات، القمة العربية الأفريقية الثالثة.

القمة الـ34 لمجلس التعاون الخليجي واجهت تحديات ذكرتني بعواصف كغزو صدام حسين للكويت وحرب تحريرها في 1990 و1991 (دبلوماسية معقدة للمجلس مع الجامعة العربية، والأمم المتحدة، والتحالف الدولي للتحرير)، وقبلها تحديات تأسيس المجلس نفسه بعد الثورة الإيرانية (وإصرار الحركة الخمينية على تصدير الثورة إلى الجانب العربي)، والحرب العراقية الإيرانية، بتعمد الطرفين جر بلدان المجلس إلى الصراع في حرب ناقلات البترول وانتهاك السيادة (الطيران العراقي هاجم الإيرانيين مخترقا المجال الجوي الكويتي) وإطلاق الصواريخ الإيرانية على ميناء الأحمدي الكويتي.

الكويت بخبرة أزمات تعرض لها مجلس التعاون أدارت قمة تواجه تحديات لا تقل خطورة عن أزمات الماضي، احتاجت لدبلوماسية وبراعة بسبب تناقضات الأولويات الاستراتيجية للمشاركين.

فالتحدي الذي تشكله إيران اليوم أكثر خطورة مما كان عليه قبل 34 عاما، ليس فقط لاتساع دائرته (تدخل حزب الله المباشر في الصراع في سوريا، ودعم النظام البعثي السوري في التنكيل بشعبه، ودعم حماس وحركات جهادية في سيناء تهدد الأمن القومي المصري، والتدخل في البحرين والجانب العربي من الخليج واستمرار احتلال جزر الإمارات بلا تقديم إطار للتحكيم القانوني)؛ بل أيضا لنجاح طهران المؤقت في إخفاء نواياها.

فعذوبة لسان الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني (مقارنة بغلظة خطاب سابقه وافتقاره للحكمة) تزامنت مع تخبط إدارة أميركية يحسن رئيسها البلاغة الخطابية لكنه يفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية الصحيحة لقراءة المتغيرات (أو ما يبدو أنها متغيرات بينما هي سياسة ثابتة) من المنظور التاريخي الأكثر صوابا.

إدارة الرئيس أوباما، وبالتالي بلدان أوروبا وبريطانيا، ابتلعت طعم الاتفاق النووي الإيراني بلا ضمانات حقيقية للتعامل مع الأهداف الأصلية لطموحات إيران النووية. والغرب إما يتغافل تعمدا أو لا يدرك بالوعي نفسه الذي تعيه بلدان التعاون الخليجي، الهدف الحقيقي وراء سعي إيران لامتلاك قدرة إنتاج القنبلة النووية.

طموحات إيران في الخليج قديمة وثابتة (وتعود إلى ما قبل برامج الجمهورية الإسلامية التي ظهرت بوضوح بممارسات تصدير الثورة ودعم فروع «franchise» حزب الله في بلدان الخليج). وما تهديد إسرائيل إلا تحويل للأنظار أو اصطياد لفريسة خرافية «red herring» (إذا ألقت إيران قنبلة واحدة على إسرائيل ستلقي الأخيرة ثلاثين قنبلة تعيد إيران إلى العصر الحجري، وبالتالي لن يغامر أي آيات الله بذلك)، فالهدف هو الهيمنة على الخليج (وتصريحات روحاني نفسه، الذي يحاول أن يسحر العالم بعذوبة لسانه، أنه يريد الخليج بحيرة إقليمية لا وجود فيها لجندي واحد من خارج المنطقة.. أي إنهاء خيار بلدان لا تستطيع الدفاع عن نفسها - لأسباب ديموغرافية وجغرافية - بلا معاهدات مشتركة مع قوى عالمية كما حدث في عدوان صدام على الكويت).

في مفاوضات «5+1» ابتلع العالم - بقيادة إدارة أوباما - الطعم (وهناك تحليلات بأن لوبيات رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران تجادل وراء الكواليس بأن نجاحها سيؤدي لضخ مزيد من البترول الإيراني مما يخفض أسعاره عالميا).

المفاوضات غاب عنها الجانب الأكثر تأثرا مباشرة من الابتزاز النووي الإيراني، وهو بلدان مجلس التعاون الخليجي. وانضمام المجلس للمفاوضات (لتصبح 5+2) ليس فقط مسألة بديهية ومنطقية من ناحية العدالة القانونية فحسب، بل أيضا من متطلبات الأمر الواقع للمصلحة الدولية بما فيها مصالح بلدان الغرب، سواء الصديقة تاريخيا أو الجديدة على المنطقة. فغياب المجلس عن مفاوضات إيران النووية ركز المفاوضات على الجانب التكنولوجي فقط (وتهديد إسرائيل كما ذكرنا خرافي وليس حقيقيا) وجرى إغفال الجانب السياسي. فمفاوضات «5+1» مع إيران لم تتناول التهديد الحقيقي المستمر لثلاثة عقود وهو التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية الخليجية ودعم الحركات المتطرفة فيها وإثارة القلاقل. وهو أمر أوضحه البيان الختامي قي قمة الكويت يوم الأربعاء، بضرورة احترام السيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية؛ رغم ترحيب بيان الكويت 2013 بالتغيير في الخطاب الإيراني والأمل في التعاون؛ أي تقديم سلم النزول من شجرة العناد والعداء التي تسلقها الرئيس السابق أحمدي نجاد وترك بلاده معلقة فيها.

بيان الكويت صيغ بمهارة لتذكير طهران بأوراق الضغط العربية وبانتهاك إيران للقانون الدولي بإشارات واضحة إلى تدخل حزب الله في سوريا، وقضية الجزر الإماراتية التي تحتلها إيران.

وإيران لم تكن التحدي الوحيد للدبلوماسية الكويتية في القمة؛ فالسعودية والإمارات والكويت، المستمرة في دعمها للشعب المصري في حربه ضد الإرهاب، مع تقديم الدعم الاقتصادي، أرادت تصريحا قويا بدعم مصر وحكومتها المؤقتة كخيار للشعب المصري؛ لكن لجان صياغة القرارات والبيان الختامي واجهت رفض طرف مشارك لصيغة دعم قوية للشعب المصري؛ وفي النهاية نجحت الدبلوماسية الكويتية في صيغة توافقية بقرار القمة بدعم وتأييد خيار الشعب المصري (هناك جملة عامة في موضع آخر من البيان غير متعلق بمصر لكنه يرفض الإرهاب ويدعم مقاومة الإرهاب ومحاربته).

كما تمكنت القمة من احتواء تحد واجهها عشية الافتتاح، وهو رفض فكرة طرحت عن مشروع تحول مجلس التعاون إلى اتحاد خليجي (كنمط تحول السوق الأوروبية المشتركة إلى اتحاد أوروبي)، مما أثار تكهنات واسعة في الصحافة (رغم أن الأمر لم يكن مدرجا أصلا على أجندة القمة حسب مصادر صياغة جدول الأعمال)؛ لكن قرارات كثيرة عن التعاون في مجالات السوق المشتركة والاتصالات بل وتأسيس قيادة عسكرية مشتركة من المجلس جاءت كحل كويتي تقليدي وسط مع الأخذ في الاعتبار أن بإمكانية بلدين خليجيين - أو أكثر - حققا شوطا أكبر في التكامل الاقتصادي والتعاون الأمني تكوين كونفيدرالية مثلا مع الاستمرار في عضوية فعالة داخل مجلس التعاون، كنموذج بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ داخل الإطار الأكبر الاتحاد الأوروبي.

نجاح الكويت في إدارة القمة الـ34 اجتياز بسفينة التعاون لعاصفة أقلقت ركابها.