علو في الحياة وفي الممات

TT

في هذا اليوم ستبكي أفريقيا ويبكي معها كل العالم على رحيل الرجل الذي أصبح مصداقا لكلمات الشاعر أبي الحسن الأنباري في رثائه لعضد الدولة البويهي:

علو في الحياة وفي الممات لحق أنت إحدى المعجزات

ما الذي جعلني أتذكر هذا البيت وأنا أحاول أن أؤبن نيلسون مانديلا بقلمي المتواضع؟ فعندما أسمع عن زعيم شيوعي قاد الحزب الشيوعي لبلاده عضوا في اللجنة المركزية للحزب ثم نسمع كل هذه الصلوات المرتفعة للسماء من شتى الكنائس بكل طوائفها ومعتقداتها، تحمد وتشكر الرب على منته بإعطائنا هذا الإنسان، لا يسعني غير أن أتلمس معجزة تحققت لهذا الرجل. ما الذي أقوله وأنا أنظر لهذا الجمع في كاتدرائية سويتو يقفون بخشوع وينشدون التراتيل الكنسية تغنيا باسمه وأفعاله ويغنون أناشيد الثورة التي كان يغنيها ويقودها باسم الماركسية. مواطنون بسائر ألوانهم وعناصرهم وانتماءاتهم، يلوحون بأيديهم عاليا بنسخ من الإنجيل. نظرت وشعرت بكل كياني يهتز كمن ينظر إلى معجزة من معجزات التاريخ.

وما العجب في ذلك؟ فسلوكه وأخلاقياته تجسد كل ما أوصت به الكتب السماوية وتجاهلناها. العفو بدلا من الثأر، السماحة بدلا من الحقد، المحبة بدلا من الكره، الصبر بدلا من العصبية والتعصب، التعايش بدلا من الاجتثاث، المرونة بدلا من التحجر، المعاصرة بدلا من الماضوية.

منذ أن أعلن عن وفاة مانديلا، امتلأت الصحف والمجلات بمراثيه وقصص حياته وسجل منجزاتها. هزتني منها كلمة الزعيم الكردي عادل مراد: «أحلم بأن يكون لي قائد مثل مانديلا لأرفع صورته على صدري». نطق بها وعبر فيها عما كان يدور في قلوبنا ودماغنا جميعا. طالما تساءلنا مع الزميل عادل مراد، لماذا عجزت أمهاتنا، عربيات وكرديات وتركيات وإيرانيات، عن إنجاب رجل مثل نيلسون مانديلا؟

أعتقد أن الجواب واضح. فنحن نشأنا وتربينا على كل ما يناقض المزايا والمواصفات المانديلية. بدلا من العفو نؤمن بالثأر، بدلا من السماحة نتمسك بالحقد، بدلا من المحبة نضمر الكراهية، بدلا من التعايش نسعى لاجتثاث كل من سلفنا ونحرم أنفسنا من تجاربهم وخبراتهم ومؤهلاتهم. لا أشك في أن أمهاتنا ولدن مئات الصغار من نمط هذا الرجل ولكننا مسخناهم بأفكارنا وتربيتنا وتراثنا وكل ما كتبه ونادى به مفكرونا ومثقفونا.

ربع قرن من حياته قضاها في سجن ناء. ولكنه عندما خرج عانق سجانيه ومد يده للتعاون مع مستعبديه ومعذبيه. دخل السجن مؤمنا بالشيوعية والاقتصاد الماركسي وخرج فرأى كيف فشلت فاحتضن اقتصاديات السوق الحرة وفتح الأبواب للرأسماليين البيض لينشطوا ويبنوا ويستثمروا ويثمروا. إذا شئت أن أختار صفة واحدة تميز الفقيد فهي برأيي «المرونة» في التعاطي مع متطلبات الحياة. وستبقى شخصيتك يا نيلسون مانديلا نبراسا لكل من ينشد النور وتكتنفه ظلمات الجهالة.