سؤال الديمقراطية الجديدة: لماذا الخوف من ترشيد الحرية؟

TT

البعض يتساءل هل يمكن أن يفضي العمل على «ترشيد» الحرية عامة، والحرية الإعلامية خاصة، وما تنشره المواقع الإلكترونية والتصريحات والفعاليات المثيرة للنعرات والغضب والفتنة إلى التضييق على الحريات؟

سؤال الحرية مشروع بلا شك، والمخاوف أيضا مشروعة، ولكن ما العمل في ظل حالة الاستهتار العام والتراشق الطائفي الذي لم يسبق له مثيل، والذي يشتبك فيه سياسيون ورجال دين وإعلاميون وبرلمانيون وحتى بعض المحسوبين على المثقفين.

هل يترك الحبل على الغارب؟ هل يترك الأمر إلى أن ينفجر في وجوهنا، استنادا إلى أن الحرية ترشد نفسها بنفسها وتحدد مسؤوليتها، وأن فوضى الحرية، خير من الاستبداد والتسلط والتقييد والتضييق!

يجيب المدافعون عن الحرية المطلقة: المسألة مسألة وقت، فالمجتمع كان متعطشا للحرية، ولكي يتعلم ممارستها بالشكل الصحيح والمتوازن يحتاج إلى وقت وإلى تربية وتنمية سياسية، وعندها سيتحقق التوازن بشكل تدريجي.. هذا التحليل يبدو منطقيا لو أن العملية تجري فوق خشبة مسرح يمكن التحكم فيه، ولكن هذا الأمر يجري على الأرض، في الشوارع وفي المنتديات والصحف وحتى داخل البرلمان، بل وفي كل الفضاءات الأخرى.. ولذلك فمن الصعب ترك الأمر للزمن ليحسمه وفقا لآلياته الخاصة، من دون تدخل الإنسان، فهذا المنطق يدفعنا إلى التساؤل: إلى حين الوصول إلى اللحظة المنشودة ما الذي يجب أن نفعله؟ هل ننتظر خراب البصرة مثلا وبعد ذلك نتحرك؟.

إن المنطق يقول بعدم وجود حرية مطلقة، وبعدم وجود حرية من دون حدود أو قيود، إلا حرية المجانين، تلك هي المطلقة، وحتى في هذه الحالة فإن العقلاء لا يسمحون لها بأن تكون كذلك.. وضوابط الحرية وحدودها، هنا، هي بلا شك المسؤولية، والقانون والثوابت التي لا يجوز العبث بها، وعلى رأسها أمن المجتمع واستقراره ووحدته، ولذلك فإن الذين يتحفظون على إجراءات «الترشيد» ويتخوفون منها، عليهم أن يطرحوا البدائل التي تؤمن استقرار المجتمع وتمنع انفلات الأوضاع، والتي إذا حدثت - لا قدر الله - فإنها سوف تجرف الأخضر واليابس، ولن ينجو منها أحد.. هكذا تقول لنا دروس التاريخ القديم والمعاصر، فهل هنالك أية مبالغة في هذا الأمر؟.

إن ممارسة الحرية، تواجه بالحدود التي يفرضها القانون، أو التي يرسمها العرف، وإذا كان صحيحا أن كل ممارسة للحرية تقع تحت طائلة القانون، وأن المتاح للمساءلة والشفافية والمحاسبة وإدارة النقاش العام حول القضايا العامة - في هذه الحالة - يتضاءل، وقد ينعدم، ولكن ممارسة الحرية يجب أن تخضع في النهاية للقانون وللضبط الاجتماعي، بوضعها على محك اختبار المسؤولية، وبالتالي يجري ترشيدها، حتى تكون بحق خلاقة ومفيدة للأفراد وللمجتمع معا.. إذ لا يعقل في جميع الأحوال أن تكون ممارسة الحرية خارجة عن القانون والأعراف، حيث تؤدي بهذه الصورة إلى الفوضى والعبث، فالحرية، لا تعني أن السلوك حر في فضاء غير محدد وغير محدود، فكل سلوك مرهون بالبيئة والمواقف والمجتمع والقانون والأولويات والثوابت.. هكذا نفهم الحرية.

إن الديمقراطية تعني في النهاية اقتناعا بجدواها ومحتواها وقبولا بمتطلباتها ومقتضياتها، وليس القبول الشكلي بها لتحقيق مكتسبات ظرفية، لأن الديمقراطية كمشروع متكامل منغرس في الواقع يطرح في جوهره تحديات بالنسبة للجميع وهي تحديات تتجلى في الحاجة إلى تجاوز أشكال المفارقات والازدواجيات المنتشرة عندنا بشكل مرضي، مثل رفض الديمقراطية في الممارسة وقبولها خطابيا بمسميات أخرى، ورفض دخول اللعبة السياسية من أبوابها الشرعية، ومواصلتها وراء الأبواب الخلفية وتحت الأرض وازدواجية في بين الأقوال والأفعال.

إن العالم المتقدم قد أجمع منذ قرون على أن الديمقراطية تحتاج إلى توافر العوامل الأساسية التالية:

- إرساء دولة القانون والمؤسسات، إذ يأتي احترام القانون في مقدمة الحياة السياسية السليمة التي لا مجال فيها للتهاون أو التنازل أو التسامح مع الفوضى والعبث والتسيب، ودولة المؤسسات تعني بالضرورة مرور كل القضايا الأساسية عبر المؤسسات وحدها، وأن الذي يريد أن يغير التشريع أو يؤثر في السياسات عليه أن يعمل من داخل المؤسسات للتأثير عليها.

- إجماع السلطة والأحزاب والجماعات والجمعيات والشعب على حماية الديمقراطية والالتزام بالقانون، في جميع الأحوال. وعليه فإنه مثلما لا يجوز للسلطة أن تلجأ إلى تجاوز القانون في التعامل مع الناس، فالأحرى بالناس وبالمؤسسات ألا يتجاوزوا القانون.

- العامل الثالث: المساواة في تطبيق القانون، وهو أمر مشترك بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وبين هذه السلطات مجتمعة وبين الشعب بكل مكوناته وجماعاته وأحزابه وجمعياته، وهو ليس حكرا على أحد دون الآخر، لأنه لا حق دون واجب بالضرورة.

- الحفاظ على المكتسبات الوطنية، فلا يوجد أي مبرر يمكن أن يسمح لأحد أو جماعة أو حزب بالاعتداء على تلك المكتسبات والإضرار بأمن المواطنين والمقيمين وأملاكهم.

ولذلك فإنه، وفي غياب الشراكة الديمقراطية وتحمل القيادات الحزبية والدينية والمدنية مسؤولياتها الكاملة لحماية الديمقراطية والحرية والدفاع عنهما، سواء ضد تجاوزات الأفراد أو تجاوزات الجماعات، فإنه لن تكون هنالك ديمقراطية حقيقية على المدى البعيد. لأن الديمقراطية في بدايتها ونهايتها هي احترام للقانون.