متحف بودجاجة في بنغازي

TT

روى الدبلوماسي الروسي اليغ بريسيبكين («المذكرات غير الرسمية»، دار «النهار»، 1997) ذكريات طيبة عن البلدان العربية التي تنقل فيها. بين جولاته يدخل مرة إلى متحف في بنغازي أقامه رجل واحد، يدعى محمد بودجاجة. بدأ بودجاجة مشروعه بجمع صور قديمة كان أخذها بنفسه، ثم راح كل من عرف بالأمر، يرسل إليه قطعة قديمة من منزله، يضيفها إلى المتحف.

يتوقف الدبلوماسي الروسي عند الجناح الذي فيه أدوات إقامة (ضرب) الخيام، و«هذا القوس الخشبي على شكل الهلال، يثقب في الوسط، ويستخدم لدعم حجاب الخيمة. وتدخل في هذا الثقب عصا غليظة تدك في الأرض بهذه المطرقة». وإذ يشرح محمد بودجاجة ضرورة تمتين الخيمة يعلِّق «لدينا مثل يقول، إذا سقطت قطرات المطر عبر القوس، فأين يا ترى يختبئ أهل الخيمة»؟

كلما فكرت في كيف أنسى سوريي الخيام، يحدث ما يذكِّرني بأن الثلج لا المطر وحده، يتساقط عبر القوس. فأين يختبئون. لقد قلت منذ مدة بأنني توقفت عن مشاهدة مأساة سوريا، لكننا لا نستطيع الهرب من القراءة عنها. في اليومين الماضيين وصلت عاصفة ثلجية عارمة إلى شوارع القاهرة وبوادي تبوك، فتصور بأي ثقل حلَّت على اللاجئين في جبال لبنان ومخيم الزعتري في الأردن، الذي نسينا أنه مخيم، وصرنا – بسبب طول المدة – نتحدث عنه وكأنه مدينة بُنيت هكذا، كما كانت تُبنى المضارب في الصحارى.

يقدِّم الدكتور فيليب حتي لكتابه «العرب» (دار العلم للملايين) بالقول: «لم تمض على وفاة النبي محمد (صلَّى الله عليه وسلم) مائة سنة حتى أصبح العرب أسياد دولة أعظم من دولة الرومان في أوج عزها، دولة امتدت أرجاؤها من بحر الظلمات غربا إلى حدود الصين شرقا، ومن جبال الأورال شمالا إلى حدود السودان جنوبا. وردد المؤمنون في كلمتي الشهادة اسم الجلالة والرسول من رؤوس المآذن في جنوب أوروبا وشمال أفريقيا وأواسط آسيا، فرجَّعت جبال الأندلس وسهول الهند والصين ومجاهل الصحراء الكبرى أصداءها».

هذا بالأمس. اليوم يكتب الزميل أحمد عياش في «النهار» عن مذيعة تلفزيونية تسأل طفلة سورية إن كانت تلهو بالثلج فتجيب الطفلة «أنا بردانة». الثلج يتسرب من القوس، فأين الاختباء يا محمد بودجاجة؟ وقوس الأمة كله منهار والناس في عذاب الجليد يبحثون في القمامة عن أكياس: إذا كانت فيها بقايا، جعلوها قوتا لهم، وإذا كانت فارغة أحرقوها للدفء. ويا أخي محمد بودجاجة، لا ضرورة لزيارة متحفك. الأمة معروضة في العراء، وأطفالها بردانون، وبوتين يخطب عن التعاون الدولي.