تراث نيلسون مانديلا

TT

يُقال إن هناك اختلافا كبيرا بين الإمبراطور «بطرس الأكبر» (حكم روسيا القيصرية منذ عام 1682 وحتى عام 1696) والأديب الكبير «فيودور دوستويفسكي» (11 نوفمبر «تشرين الثاني» 1821 إلى 9 فبراير «شباط» 1881). فالإمبراطور بطرس الأكبر سعى لتوسيع رقعة «الأراضي» الروسية وتوحيدها، أما دوستويفسكي فقد سعى إلى تعزيز الهوية الروسية وخلق «روح» مشتركة بين الروس جميعا. بمعنى آخر، الفارق هنا هو المسافة الشاسعة بين «الأرض» و«الروح». وفي الحقيقة، عندما نريد أن نتعرف على هوية روسيا والروس، فإن أفضل سبيل إلى ذلك قراءة مؤلفات دوستويفسكي، ينبغي أن نقرأ رائعته «الإخوة كرامازوف» مرات كثيرة، بدلا من قراءة السيرة الذاتية للإمبراطور بطرس الأكبر.

من النادر أن ترى شخصيات مميزة في تاريخ الأمم تجمع بحق بين عنصري «الروح» و«الأرض» لبلادهم. تلك الشخصيات التي لا تمثل بلادهم فقط، بل تمثل رمزا للقارة التي ينتمون لها، بل تتخطى حدود القارة لتصبح بين أهم الزعماء في العالم.

وعندما نستمع لكلماتهم الحكيمة وننصت إلى تلك الموسيقى العذبة التي تنساب بين ثنايا أصواتهم ونرق لذلك البريق الأخاذ في عيونهم، نشعر ساعتها أننا نحبهم بحق. وقد كان نيلسون مانديلا مثالا حقيقيا لأولئك الرجال المميزين. لقد كان مانديلا بحق البطل المنشود في زماننا.

ما أريد أن أقوله هو أنه يمكننا أن نفرق بين الزعماء الثوريين والزعماء الروحيين. ودعوني أسُقْ إليكم ثلاثة أمثلة، هي فلاديمير لينين، وماو تسي تونغ، وفيدل كاسترو، الذين كانوا جميعا زعماء ثوريين. وخلال حياتهم (توفي لينين وماو، أما كاسترو فما زال على قيد الحياة)، كانوا جميعا ملء السمع والبصر في بلادهم، غير أن شعبيتهم بقيت مقيدة داخل نطاق آيديولوجياتهم وحدود بلادهم. أما بعد موتهم، فإنهم يتحولون إلى مجرد ظلال، وبمرور الوقت، يتلاشون شيئا فشيئا.

وفي هذه الأيام التي نعيشها حاليا، حيث يقف العالم بأسره احتراما وإجلالا لنيلسون مانديلا، جرى إسقاط وتحطيم تمثال لينين في كييف من قبل أولئك الذين بدأوا في انتقاد النظام السابق.

ويبدو واضحا أنه لن يحدث أبدا أن يجري إسقاط وتحطيم تمثال مانديلا، وهذا ما يدعونا إلى التساؤل، ما الفارق الأساسي بين مانديلا وأمثال لينين وماو تسي تونغ؟

أعتقد أن نيلسون مانديلا كان وسيبقى زعيما روحيا وإنسانيا، أما لينين وماو تسي تونغ فقد كانا زعيمين ثوريين.

في كتابه الآيديولوجي، «الكتاب الأحمر الصغير»، يشرح ماو تسي تونغ أفكاره وخواطره. وعلى سبيل المثال، وجودك يعني أن يكون لك عدو، ومن دون ذلك العدو فإن وجودك لا يعني شيئا.

يقول ماو تسي تونغ في مايو (أيار) من عام 1939: «أعتقد أنه يبقى شيئا سيئا بالنسبة لنا أن لا يهاجم العدو شخصا أو حزبا سياسيا أو جيشا أو حتى مدرسة، ففي هذه الحالة سيعني ذلك بلا شك أن لدينا مدرسة لا يهاجمها العدو، مما يعني أيضا أننا قد انحدرنا إلى مستوى العدو. ومن الجيد أن يهاجمنا العدو، لأن هذا يبرهن على أننا قد رسمنا خطا حدوديا واضحا يفصل بيننا وبين ذلك العدو. كما يبقى شيئا جيدا أن يهاجمنا العدو بشراسة وينعتنا بأقذع الأوصاف حتى لا يبقى لنا فضيلة واحدة يذكرنا بها، وهذا يكشف أننا لم نرسم خطا حدوديا بيننا وبين العدو فقط، بل إننا أنجزنا كثيرا من العمل الذي رغبنا في تحقيقه».

ويؤمن ماو تسي تونغ بثلاثة مبادئ رئيسة؛ الأول هو أنه يؤمن بأن الماركسية هي أفضل وأكثر الآيديولوجيات كمالا. والثاني أنه يؤمن بأن تفسيره للماركسية هو أفضل تفسير على الإطلاق. والثالث هو أنه يؤمن بأن لديه الحق المطلق في قتل جميع الحركات التي تعارضه. يعتقد ماو تسي تونغ أنه يستطيع أن يتخلص من الآخرين، لأنهم ببساطة يعارضون سياساته وأفكاره. وقد قيل إنه خلال 11 عاما، من 1958 وحتى 1969، قتلت حكومة ماو تسي تونغ من 49 مليون إلى 78 مليون شخص. إنها مذبحة مروعة تلك التي جرت في الصين، حيث جرى خلالها إلقاء آلاف من أساتذة الجامعات والطلبة من على أسطح ومن شرفات المباني الشاهقة إلى الشوارع. لقد كانت تلك هي الثورة الثقافية في الصين. كان وصف الناس بأنهم أعداء وقتلهم هو أعظم إنجازات ماو تسي تونغ.

وقد قالت زوجته عنه شيئا غريبا في هذا الصدد: «لقد كنت الكلب الأمين للرئيس ماو. حينما يطلب مني الرئيس ماو أن أعض، أفعل ذلك بلا تردد!» (كتاب «ماو تسي تونغ: القصة المجهولة»، تأليف: يونغ شانغ - جون هاليدي، الناشر: جوناثان كيب).

بعد 27 عاما قضاها في السجن، عاد نيلسون مانديلا إلى شعبه من دون أن يحمل أي مشاعر كراهية أو ضغينة لأي شخص. عاد مانديلا من دون أي آيديولوجية خاصة أو رسمية، وعند عودته لم يدّعِ أبدا أنه يملك الحقيقة المطلقة. كان مانديلا شخصا طيبا جدا ليس فقط مع أصدقائه، بل مع أعدائه أيضا، لأنه لم يؤمن أبدا بأن لديه أعداء. هذا هو السر الواضح وراء عظمة مانديلا كزعيم روحي إنساني عالمي. وفي خطاب التأبين الذي ألقاه في جوهانسبورغ يوم 10 ديسمبر (كانون الأول)، قال الرئيس الأميركي باراك أوباما إن مانديلا هو تلك القمة العالية التي لا يستطيع أوباما أبدا أن يصل إليها. وذكرا أوباما في خطابه مقولة مانديلا الشهيرة: «أنا لست قديسا، إلا إذا كنت تعتقد أن القديس هو شخص مخطئ لا يكف عن محاولة الإصلاح».

وتُعد الملاحظات التي دونها مانديلا طوال فترة سجنه الطويلة تراثا عظيما لا يُقدر بثمن. وقد جرى نشر تلك الملاحظات في كتابه: «حوارات مع نفسي». في الثاني من يونيو (حزيران) من عام 1979، كتب مانديلا: «الهدف من الحرية هو السعي لتوفيرها للآخرين».

الزعماء الثوريون والآيديولوجيون يعتقلون ويعذبون ويقتلون الآخرين حتى يحققوا أجندتهم السياسية الخاصة. وعلى العكس من ذلك، يمتلئ قلب غاندي ومانديلا بالسلام والطيبة والبساطة والإنسانية للآخرين.