الحقيقة التي عاد بها بكر عطياني

TT

«ذهبت إلى هناك كصحافي يبحث عن الحقيقة. لم أستطع آنذاك القول إنني أمتلك تلك الحقيقة، إلا أنني الآن عدت بها».

كانت تلك الكلمات الأولى للصحافي الزميل بكر عطياني بعد عودته من رحلة بحثه الصحافي التي كانت مكلفة وشاقة وكادت تكون مميتة..

ورحلة بحث الزميل في قناة «العربية» استغرقت ثمانية عشر شهرا من عمره وعمر عائلته وزملائه. ذهب ليستقصي واقع المسلمين في جنوب الفلبين فوقع أسيرا بيد جماعة «أبو سياف». هذه الجماعة المتطرفة نصبت لعطياني فخا من خلال القبول بمنحه مقابلات صحافية، لكن ما إن وصل إلى هناك حتى اعتقلته الجماعة وساومت عليه وعلى حياته، فهددته مرارا وسجنته انفراديا لأشهر، واستلزم إطلاق سراحه مفاوضات ومتابعات مضنية.

لا تنتهي حكايات خطف الصحافيين في حالات مشابهة نهاية سعيدة، ولنا في الذاكرة، خصوصا الآني منها، أنباء وأخبار مأساوية حيال المصير الذي يواجه شريحة من الصحافيين والناشطين الجديين والمخلصين لعملهم الذين دفعوا حياتهم ثمنا لتلك الجرأة والمغامرة..

لكن بكر عطياني تمكن من العودة.

صحيح أنه عاد مريضا وناحلا ومثقلا برهاب الخطف في مناطق بعيدة مجهولة والمصير المعلق لأكثر من عام ونصف العام، لكنه عاد. عاد بتجربة وبخبرة، لا يملك كثيرون شجاعة خوضهما واستثمارهما مهنيا وإنسانيا.

اللقاءات السريعة والعبارات الموجزة التي قالها عطياني بعد عودته تشي بأن في جعبته الكثير الذي يستحق القول والرواية، لكن لم يحن ربما الوقت بعد.. وما جرى لبكر عطياني يحثنا على التوقف عند ما صار يحف بهذه المهنة من احتمالات. فالزميل ذهب في مهمة صحافية، فكان الثمن ثمانية عشر شهرا من عمره.. غياب عن الأهل والزملاء والمنزل والمدينة. لكن، لم يكن غيابا عن المهنة، ذاك أن الصحافة بهذا المعنى جزء من الخبرة ومن المأساة.

الاقتراب القسري من احتمالات الموت ومن الأسر ومن شظف العيش. فالصحافي مؤرخ اللحظة لا يكف عن التقاط ما يعيشه وعن استدخاله في وعيه المهني حتى لو كان هذا مأساة من ذلك النوع الذي كابده بكر عطياني.

يحق للزميل عطياني بعض النرجسية هنا، ذاك أن الصحافة هي الحياة نفسها إذا ما مورست على نحو ما مارسها ولو قسرا. اختطاف وسجن لمدة ثمانية عشر شهرا كافية لإعادة إنتاج وعي بالمهنة، يرشح بكر عطياني لأن يكون متقدما علينا بهذه الخبرة. فالرجل فاز بحياة جديدة، غالبا ما لا يفوز بها من يتعرض لمثل تجربته من الصحافيين. ها هم زملاء كثر خطفوا وتعرضوا للقتل ومنهم من لا يزال مصيره غامضا في سوريا..

نعم، عاد بكر إلى عائلته وإلينا وإلى المهنة.. عاد محملا بما لم نتمكن من حمله في عقود طويلة من العمل..

أهلا به وبعودته التي تعطي أملا وسط كل هذه الخسارات من حولنا..

[email protected]