مسألة ثقة.. هل بمقدور الزمن تداركها؟

TT

أوجد تفاقم التوترات بين القاهرة وواشنطن على نحو لافت منذ اندلاع الحراك الثوري الشعبي المصري في يناير (كانون الثاني) من عام 2011، وصولا إلى ملابسات وتداعيات الإطاحة بالرئيس مرسي في الثالث من يوليو (تموز) الماضي، حالة من الجدل الشديد في مصر بشأن إمكانية استعاضة القاهرة لصداقتها المنهكة مع واشنطن بأخرى بديلة مع موسكو، التي طفقت تبحث بدورها مؤخرا عن شركاء استراتيجيين جدد في منطقة الشرق الأوسط بعد ضمور علاقاتها مع أصدقائها التقليديين في ليبيا والعراق وسوريا، وشروع واشنطن في نقل مركز الثقل لاستراتيجيتها حيال المنطقة تدريجيا من الخليج والمشرق العربيين إلى وسط آسيا وشرقها.

وبينما حفلت الأسابيع القليلة المنقضية التي تلت إعلان واشنطن تعليق جانب من المساعدات العسكرية السنوية لمصر، بمساع حثيثة من الجانبين المصري والروسي بقصد إعادة الزخم للعلاقات الاستراتيجية التاريخية بين البلدين، يصطدم التفكير في إمكانية تحول روسيا إلى حليف استراتيجي لمصر كبديل عن الولايات المتحدة بعراقيل شتى، تأتي في صدارتها أزمة الثقة التي تلقي بظلالها على علاقات الطرفين منذ عقود.

فمصريا، لم تتحرر القاهرة بعد من شكوكها في مدى جدوى التحول شرقا على الصعيد التسليحي، وقدرة موسكو على الوفاء بالغايات الاستراتيجية المصرية المتمثلة في انعتاق مصر من الدوران في الفلك الأميركي، وتنويع مصادر تسليح الجيش المصري، وتوسيع دائرة الشراكة الاستراتيجية مع القوى الكبرى بما يتيح مستوى معقولا من التطور التكنولوجي العسكري يساعد بدوره على تقليص الخلل في ميزان القوة العسكرية الذي يميل لمصلحة إسرائيل، التي لا تضن عليها واشنطن بكل ما هو نفيس ومتقدم من ترسانتها العسكرية الأكثر تطورا على المستوى العالمي.

فلطالما عايش المصريون تجارب وخبرات مريرة مع الروس في مراحل زمنية سابقة كانت موسكو تعد نفسها خلالها صديقا وفيا وحليفا سخيا للقاهرة، فيما ارتأى المصريون عكس ذلك.وعلى الجانب الآخر، لا تبدو روسيا مندفعة باتجاه التقارب مع مصر، فلروسيا حساباتها الاستراتيجية الخاصة، كما تعي جيدا مدى خصوصية العلاقات المصرية الأميركية، التي لم تكن المنعطفات العارضة التي تطالها لتحول دون استمرار المساعي الحثيثة لطرفيها من أجل استبقاء الشراكة الاستراتيجية الراسخة والمزمنة بين البلدين.

وجليا، بدا هذا الأمر في صور شتى أبرزها: هرولة واشنطن لاسترضاء القاهرة عقب تجميد شطر من المساعدات العسكرية السنوية الأميركية إليها، إن عبر إلحاح البنتاغون والبيت الأبيض في مطالبة الكونغرس بالتراجع عن قرار التجميد حتى لا تتفاقم الفجوة بينهما على نحو يمهد السبيل لتقارب استراتيجي بين مصر وروسيا، أو من خلال زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري الأخيرة لمصر مؤخرا وتأكيده على عمق العلاقات وأهمية مصر للولايات المتحدة وإبدائه استعداد بلاده استئناف كل المساعدات لمصر غير منقوصة بعد استكمال خارطة المستقبل التي أعلنها الجيش عقب الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي.

كما اتضح كذلك في تأكيد القاهرة حرصها على العلاقات مع واشنطن، وتشديدها على أن التقارب مع موسكو لن يكون على حساب العلاقات مع واشنطن أو بديلا عنها، إضافة إلى استعانة الإدارة الانتقالية في مصر بشركة أميركية تعمل في مجال التأثير على الإدارة والكونغرس والرأي العام في الولايات المتحدة بغية تحسين صورة تلك الإدارة الانتقالية وزيادة أسهمها لديهم، علاوة على تأكيد مدير الاستخبارات العامة المصرية على أن التعاون الاستخباراتي بين القاهرة وواشنطن لم يتأثر بالتوتر الذي يلف علاقات البلدين هذه الأيام.

وبينما لن يكون بمقدور واشنطن وتل أبيب غض الطرف عن أي تقارب مصري روسي قابل للتطور إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية أو التعاون العسكري، برأسها تطل تفاهمات بين موسكو وواشنطن تنظم العلاقات بين البلدين وتضبط إيقاع مساعي كل طرف لتعزيز علاقاته مع أي من الدول المحورية حول العالم، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط، ولا أحسب أن موسكو مستعدة أو حتى راغبة في الدخول في مصادمات أو توترات إضافية مع واشنطن حول مصر أو سواها.

وعديدة هي المؤشرات التي تشي بأن موسكو لم تبرأ بعد من عقدة استراتيجية التحالف الوظيفي والظرفي التي ما برحت تنتهجها القاهرة حيالها، فعلى الرغم مما تعتبره دوائر روسية وقفات استراتيجية تاريخية سخية مع مصر، كمساندتها إياها على كسر حظر تصدير السلاح الغربي إليها بعد ثورة يوليو 1952 من خلال صفقة الأسلحة التشيكية في عام 1955، ثم إسهامها في وقف العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 من خلال الإنذار الذي وجهته للثالوث المعتدي بالتنسيق مع واشنطن، ومن بعد ذلك مساعدة مصر في بناء السد العالي بالتزامن مع دعم صمود الجيش المصري إبان حرب الاستنزاف، لم يتورع الرئيس الراحل أنور السادات عن إلغاء معاهدة الصداقة بين البلدين عام 1972 وطرد الخبراء الروس من مصر، بيد أن هذا التصعيد المصري الساداتي لم يمنع موسكو من تزويد مصر بما يرتئي الروس أنه كان أحدث ما في ترسانة بلادهم العسكرية إبان حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، ثم ما كان من السادات مجددا إلا أن تنكر لذلك بعد الحرب موليا وجهه شطر واشنطن.

ومن ثم لا يرى مراقبون روس كثر في توجه المصريين صوب بلادهم سوى خيار مرحلي واضطراري بعد أن توصد في وجوههم الأبواب الغربية، ثم لا يلبثون أن يتنكروا للروس ويستسلموا للهوى بحليفهم الأميركي بمجرد تلويحه لهم بعد انقشاع العقبات وصفاء الأجواء. ويتخوف أولئك المراقبون الروس من ألا تتخطى مساعي القاهرة حاليا لتعزيز العلاقات مع بلادهم كونها محض محاولة للضغط على واشنطن بغية حملها على التراجع وتحسين شروط وركائز علاقات ثنائية طالما نجحت في تجاوز الأزمات وعبور المنحنيات لتستحق وصفها بالخاصة أو الاستراتيجية. ليبدو المصريون وكأنهم يؤثرون شراكة استراتيجية راسخة مع واشنطن وإن اتشحت بقليل من الثقة وتوجت بقسط معقول من المصالح والمغانم، على تقارب ظرفي وقلق مع موسكو، يبدو متواضع المكاسب ومحاصرا بفجوة ثقة لا تلتئم بمرور الزمن.