قراءة في الموازنة التركية لعام 2014

TT

ماراثون إقرار مشروع قانون الموازنة التركية لعام 2014 في البرلمان مستمر والاحتقان السياسي في ذروته والدخان الأبيض قد لا ينبعث في الوقت القريب، لكن مجموع أصوات نواب العدالة والتنمية قادر على الحيلولة دون وقوع أي مفاجآت غير مستحبة أو محسوبة.

الأرقام التي أعلنت في أنقرة تقول إن مجموع حجم النفقات العامة هو 220 مليار دولار، وإن مجموع الواردات العامة هو 205 مليارات دولار، لكن الحقيقة هي أن بقية التفاصيل تقول: إن الصعود الاقتصادي التركي مستمر، وإن الأرقام الرسمية التي وزعت أخيرا تشير إلى أن متوسط النمو القومي خلال السنوات الـ10 الأخيرة هو خمسة في المائة وهو الرقم الذي يعني، حسب الكثير من الخبراء والمتابعين، صمودا وازدهارا واضحا للاقتصاد التركي أمام كل هذه الأزمات المالية والاقتصادية التي ضربت بالكثير من دول العالم والمنطقة.

وإن تركيا متمسكة بسياسة المنازلة الاقتصادية والتجارية، على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، في وقت يعاني فيه الاقتصاد العالمي من ركود وجمود وتراجع ملحوظ.

وإن السيناريوهات الكثيرة المرسومة حول تراجع قوة ونفوذ تركيا بعد ثورات الربيع العربي واهتزاز علاقاتها مع الكثير من دول المنطقة والتي وضعتها ضمن دائرة المناطق الحمراء المهددة، والواجب التعامل بحذر ودقة معها لم تحقق مبتغاها حتى الساعة.

وإن العدالة والتنمية حول الموازنة التركية من موازنة يذهب 15 في المائة منها إلى الديون الداخلية والخارجية إلى دولة تسدد القسم الكبير من هذه الديون حيث تراجعت هذه النسبة إلى ثلاثة في المائة فقط. وإن التلويح الدائم بأرقام وحجم الديون الداخلية والخارجية ضد أنقرة لم يكن له أي مفعول، بل على العكس من ذلك فتركيا أنهت علاقاتها الدائمة التأزم مع البنك الدولي، وهي اليوم في عداد الدول الدائنة وليست المدينة.

وإن الناخب والمواطن التركي متمسك بأولوية الاستقرار الاقتصادي والمالي اللذين وفرتهما له حكومة العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة المرتبط مباشرة بالاستقرار السياسي ورفضه العودة إلى لعبة المغامرة الائتلافية التي عانى منها حتى عام 2002 ووصول العدالة والتنمية إلى سدة الحكم.

وإننا قبل سنوات كنا نكتب منتقدين سياسات العدالة والتنمية باتجاه الخصخصة «التي باعت الأخضر واليابس» ووضعته بتصرف الشركات والمؤسسات ورؤوس الأموال الأجنبية، وإنه اليوم فقط تتضح أهمية وضرورات وفوائد قرارات حاسمة وخطيرة من هذا النوع، كان لا بد من المغامرة والجرأة في اتخاذها.

وإن صانعي السياسات الاقتصادية في حكومة العدالة قبلوا تجرع الوصفة الأصعب ومقارعة التحدي، لكنهم لم يتراجعوا عن سياسة الخصخصة والانفتاح على الرأسمال والاستثمارات الخارجية بعقلانية وجدية وواقعية.

ربما هي موازنة تقشفية جديدة تحتاط وتتحسب للمفاجآت الداخلية والخارجية، لكنها ليست موازنة أزمات كما هي الحال اليوم في الكثير من دول المنطقة.

حصة الأسد هي لوزارة التعليم مع زيادة بنسبة 15 في المائة، مقارنة بأرقام العام المنصرم والرقم المقترح هو نحو 40 مليار دولار يعقبه رقم موازنة وزارة الصحة الذي يصل إلى 38 مليار دولار.

مسألة لا يحب سماعها البعض، وهي أن النفقات العسكرية والحربية والاستخباراتية زادت بشكل ملحوظ عن أرقام العام المنصرم وهي اليوم تصل إلى نحو 25 مليار دولار.

حكومة أردوغان تقول، إنها متمسكة بمسار الملف الكردي، وإن الحل السياسي سيخفف أعباء المبالغ الكبيرة المخصصة لهذه الأزمة، لكنها في جميع الأحوال لا تتخلى عن حسابات الفشل وخيار العودة إلى العمليات الحربية والقتالية في جنوب شرق تركيا. اللافت هنا هو الزيادة الملحوظة في نفقات جهاز الاستخبارات، حيث يرتفع الرقم من 260 مليون دولار في موازنة عام 2010 إلى 530 مليون دولار في موازنة العام المقبل. هاقان فيدان اسم سنسمعه يردد أكثر فأكثر في المرحلة المقبلة.

لمساعدة البعض على قراءة التفاصيل في خبايا الموازنة نذكر فقط أن نسبة العجز في الموازنة التركية هو اليوم أقل عن نسب 23 من أصل 28 دولة موجودة تحت سقف الاتحاد الأوروبي ويتمسك الكثير منها برفض العضوية التركية. وإن الدولة تحملت مبلغ 50 مليار دولار نيابة عن مصارف كثيرة أعلنت إفلاسها في مطلع عام 2000، وإن نسبة الفوائد على القروض الزراعية وصلت إلى 60 في المائة قبل عقد وهي اليوم تتراوح بين صفر وثمانية في المائة، وإن احتياطي البنك المركزي التركي ارتفع خلال السنوات الـ10 الأخيرة من 22 مليار دولار إلى 134 مليار دولار، وإن مجموع قيمة القروض المقدمة لأصحاب المهن والمصالح المتوسطة الحجم ارتفع من 154 مليون دولار إلى أربعة مليارات ونصف المليار دولار، وإن عدد الجامعات التركية زاد من 73 جامعة إلى 175 جامعة في العقد الأخير.

البعض يتساءل شامتا حول أسباب غياب رجب طيب أردوغان عن المشاركة في مراسم تأبين نيلسون مانديلا، واختار هو أيضا الرد على طريقته أن تركيا تعيش نوبة العزلة والانزواء والتهميش، بينما الجواب الحقيقي هو أن رئيس الوزراء التركي كان منهمكا بوضع اللمسات الأخيرة على موازنة تحمل أكثر من رسالة ليس فقط إلى الداخل التركي، بل إلى الخارج الذي قد لا يعرف الكثير منه أن تركيا حظيت بالمرتبة الأولى في حجم تقديم المساعدات إلى الخارج هذا العام.

مواصلة سياسة إعادة التموضع في الاقتصاد الوطني التركي مستمرة والعجز العام في الموازنة تراجع من 12 إلى اثنين في المائة فقط في السنوات الـ10 الأخيرة. أما الرقم المقترح لموازنة عام 2023 فهو تريليونا دولار.