لابسين مزيكا

TT

يمتد شارع محمد علي من ميدان العتبة إلى القلعة، ولأن الشوارع فيما مضى كانت ذات ملامح مثل البشر تحدد شخصيتها، كانت أهم ملامح هذا الشارع أنه شارع الفن والفنانين، كان يعيش فيه الموسيقيون والمطربون والراقصات وأيضا صناع الآلات الموسيقية، وخاصة الوترية. في ذلك الوقت البعيد، كانت الناس تستعين بفرق الموسيقى النحاسية في الأفراح والجنازات، بالإضافة لعدد من المناسبات. كانت هذه الفرق مشهورة باسم «فرقة حسب الله»، ربما كان صاحب هذا الاسم معروفا في الماضي البعيد إلى الدرجة التي جعلته ماركة مسجلة لكل فرق الموسيقى النحاسية. وكانت هذه الفرق تتكون من عازفين ممتازين بالفعل ولم يعرفوا ما يسمى فترات الكساد، فالناس لا تكف عن الفرحة والحزن. على العكس من ذلك، كان يحدث في أوقات كثيرة أن يزداد عليهم الطلب، فيعجزون عن توفير العدد الكافي من العازفين، ولما كان الإنسان تحت ضغط الحاجة يلجأ للاختراع أو الاحتيال، لذلك اخترع أصحاب هذه الفرق أسلوبا جديدا في العمل، ليس مهما أن تتكون الفرقة من عازفين جيدين أو متوسطي القيمة، الأكثر أهمية أن يكون عددها مقنعا وأداؤها ظاهريا مقنعا، يكفي أربعة عازفين فقط، أما الباقون فسيرتدون ثياب العازفين الكاكي المزركشة ويمسكون بالآلات النحاسية وينفخون فيها وهم يحركون أصابعهم على مفاتيحها ويتمايلون بأجسامهم في انسجام وهم يمشون على الإيقاع.

هكذا، ظهرت إلى الوجود مهنة جديدة هي الادعاء بأنك تعزف بينما أنت في حقيقة الأمر تنفخ، وكانوا يسمونها «لابس مزيكا»، وكان هؤلاء النافخون يجلسون على مقاهي شارع محمد علي وخاصة تلك القهوة الشهيرة، قهوة التجارة التي يعرفها جيدا فنانو تلك الأيام. كان سماسرة تلك الفرق يمرون على هذه المقاهي في حالات الزنقة ويوجهون سؤالا واحدا لأي شخص يتوسمون فيه الميل إلى النفخ: تلبس مزيكا؟

هكذا، كان يتم استيعاب الطلب المتزايد على هذه الفرق بهذه الطريقة المبدعة التي تعجز كل الأمم عن مباراتنا فيها. هكذا أيضا، تم إضافة وصف جديد لقاموس التخاطب اليومي عند المصريين يصفون به هؤلاء الذين يتظاهرون بأنهم يعملون بجد وحماس بينما هم في واقع الأمر يتظاهرون بذلك لعجزهم عن الفعل، أي إنهم ينفخون ولا يعزفون. غير أنه لا بد من ملاحظة أنهم ليسوا نصابين ولا مزورين، هم فقط «لابسين مزيكا» لعجزهم عن العزف. ستجد مبنى من عشرين طابقا يعمل به ثلاثون ألف شخص «لابسين مزيكا» وعشرة أشخاص فقط يعملون. ستجد صحيفة بها عشرة آلاف شخص «لابسين مزيكا»، بينما عشرة أشخاص فقط يعملون.

لذلك، ستجد الأماكن التي بها عمل كثير تعاني قلة الأيدي العاملة، بينما تشكو الإدارات ذات العمل الخفيف مما يسمونه العمالة الزائدة. لا توجد مشكلة في كل ذلك طالما كان عدد العازفين كافيا للعزف بحيث تسمع الناس صوت الموسيقى، أما الكارثة الحقيقية فهي عندما يتكاثر عدد النافخين فيشعرون بأن العازفين أقلية ويتعاملون معهم على هذا الأساس أي يطردونهم من الأوركسترا، فتكون النتيجة أن تتصور الناس في كل مجالات العمل أن الهدف الأساسي في الحياة هو النفخ والحركة بانسجام على نغمات لا وجود لها.