معاليه السعودي سبق سعادته البريطاني

TT

كان المأمول لمناسبة حلول الذكرى السبعين لاستقلال لبنان أن تحذو المؤسسات الرسمية والبلديات وبالذات بلدية العاصمة بيروت حذو دول أخرى ينتظر شعبها، من مواطنين عاديين ورسميين، حلول ذكرى اليوم الوطني لبلدهم فيُظهرون من الابتهاج أحلاه ومن الولاء أعمقه ومن الأمل منتهاه. وهذا على سبيل المثال ما فعله الشعب السعودي لمناسبة الذكرى الثالثة والثمانين لليوم الوطني التي حلت الاثنين 23 سبتمبر (أيلول) 2013، وكيف أن الأجداد والآباء والأبناء عبَّروا بعفوية عن فرحتهم ورأوا في توصيف ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز كما لو أنه يعبِّر عن مشاعر كل منهم. وفي هذا التوصيف قال الأمير سلمان في كلمته للمناسبة «إن الملك عبد الله قائد مخلص غيور على وطنه سخَّر طاقات الدولة وأجهزتها ومواردها بعزم وإصرار وتفان لخدمة الوطن والمواطنين. وما لمسْنا مِن نهضات إصلاحية لافتة لخادم الحرمين الشريفين إلاَّ دليلا على حكمته، وفَّقه الله في ترتيب الأولويات والتعرف على المطالب والاحتياجات الملحة، فهو يستمع حفظه الله ويستشير ويمضي بعزم للقرار ويتأكد من سرعة ودقة التنفيذ. ولا أبيح سرا إذا قلت لمواطني المملكة الأعزاء إن هموم المواطنين خصوصا من الشباب تحتل اليوم المساحة الأكبر من لدن خادم الحرمين الشريفين الذي تؤرقه قضاياهم، هموم كتوفير الوظيفة اللائقة ورفْع مستوى الدخل وتيسير السكن الكريم والرعاية الصحية الكاملة لهم ولأطفالهم، ولهذا فإن التركيز والاستثمارات في المشاريع الحالية والخطط المقبلة تتوجه لمعالجة هذه القضايا والتغلب على هذه التحديات..».. وإلى الأمير سلمان نجد الأمير مقرن بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء يتحدث عن الذكرى فيقول: «إن المناسبات السعيدة تتوالى على مملكتنا العزيزة في ظل نعمة الأمن والاستقرار التي لا يعيها ولا يعرفها إلاَّ من افتقدها، فنحن ولله الحمد في عهد سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز نعيش متآخين متعاضدين كالجسد الواحد في الوقت الذي نرى العالم من حولنا تعصف به النزاعات والصراعات ويتجرع أفراده مرارة تلك النزاعات..».. كما نجد وزير الحرس الوطني الأمير متعب بن عبد الله يتأمل في سيرة جده المؤسس ليخلص إلى القول «بفضل الله وتوفيقه تم للملك عبد العزيز ما أراد فانطلقت بلادنا نحو الاستقرار والأمان حتى أصبحت مثالا يُحتذى في وحدتها السياسية وترابُط نسيجها الوطني الذي يزداد تماسكه قوة يوما بعد يوم، ومما لا شك فيه أن الذكرى الغالية الثالثة والثمانين ليومنا الوطني تقتضي منا العمل على تنمية مشاعر الانتماء لهذه الأرض الطاهرة ضد حملات التضليل التي تستهدف أمننا واستقرارنا والنهضة الشاملة التي أُنجزت عبْر جميع العهود لهذه الدولة وصولا إلى عهد سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز..».. ونرى الحفيد الآخر وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف يرى أن «ما تحقَّق في عهد سيدي خادم الحرمين الشريفين عبد الله بن عبد العزيز نهضة تنموية شاملة في مختلف المجالات الاقتصادية، والسياسية، والأمنية، والاجتماعية، والتعليمية، والصحية، والثقافية، والإعلامية، وكافة مناحي الحياة، تتطلب بالضرورة التطوير المستمر في آليات وكفاءات وجهوزا أمنيا متيقظا لكل طارئ ومؤثِّر على الأمن والتعامل مع الأحداث والمتغيرات وفق متطلبات الموقف ومقتضيات المصلحة الوطنية ودواعي المحافظة على مسيرة التنمية والتطوير..»..

وأنا بالنسبة إلى اليوم الوطني السعودي أستحضر رؤية ابنين للمؤسس هما الأمير سلمان والأمير مقرن ورؤية حفيديْن هما الأمير متعب والأمير محمد كمثال يعكس نظرة الأبناء والأحفاد إلى أهمية التوحد والولاء للوطن والتركيز على التنمية والاستقرار، وهي أمور تدرجت عهدا بعد عهد وبلغت مداها في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز. لكن بقدر اعتزاز الأبناء والأحفاد والذي سجل كل منهم اعتزازه باليوم الوطني مستحضرا سيرة القائد المؤسس، فإن اعتزاز أبناء المملكة من مسؤولين ومواطنين كان أيضا لافتا من خلال تصريحات أدلى بها البعض وإعلانات من رجال أعمال وشركات حفلت بها صفحات الصحف وابتسامات ارتسمت على مدى ساعات اليوم على وجوه الكبار والصغار على حد سواء. وكل ذلك لأن نعمة الاستقرار حاضرة وهيبة الدولة قائمة ولهفة القيادة على الشعب دائمة. ومن الطبيعي عندما تكون الحال على هذا النحو أن يشعر المواطن بأن «اليوم الوطني» هو يوم ديمومته مثلما أن يوم مولده هو يوم إطلالته على الحياة.

وما لاحظناه بالنسبة إلى تعامل السعوديين مسؤولين ومواطنين مع اليوم الوطني ولمسْنا أهمية الاستقرار في حياتهم، لاحظناه أيضا لدى شعب دولة الإمارات لمناسبة احتفالهم مسؤولين ومواطنين بيومهم الوطني ومدى اعتزاز المواطن بهذا اليوم نتيجة أن الاستقرار والتنمية والقيادة الواعية هي الخيمة التي تظلل هذه الإمارات والتي بسببها استطاعت إمارة دبي الفوز بأهم معرض أممي ينعقد على أرضها عام 2020. وأكثر ما لفت الانتباه في احتفال الإماراتيين كان إنشاد الصغار قبل الكبار لعلم الوطن وفرحة الآباء والأبناء معا بيوم الوطن الذي هو اليوم المرادف لنعمة الاستقرار والأمن والتنمية المستدامة.

كل هذه المظاهر افتقدها اللبنانيون في ذكرى يومهم الوطني، مع أنهم كدولة صغيرة يجب أن تكون فرحتهم بعيدهم الوطني متميزة ولا تقل على سبيل المثال عن فرحة أبناء دبي التي تأخذ يوما بعد آخر من رونق كان عليه لبنان ثم بدأ استشراء عدم الاستقرار وعدم الولاء للوطن وعدم وجود الحكم السوي وعدم نشْر التنشئة الوطنية في نفوس طلاب المدارس الابتدائية والتمهيدية. ولذا من الطبيعي أن يستغرب المرء كيف أن أعلام الوطن لم ترتفع على شرفات المؤسسات والبيوت وعلى أعمدة النور وفي الموانئ البحرية والجوية وإجبار المعنيين على أن يفعلوا ذلك، في حين ارتفعت أعلام الأحزاب والمنظمات وصور ولافتات لا علاقة لها باليوم المجيد، الأمر الذي يعني أن الإيمان بهذا اليوم هو نقيض إيمان الآخرين وتحديدا السعوديين والإماراتيين الذين أوردنا على سبيل المثال لا الحصر ما فعلوه أو قالوه مسؤولين ومواطنين.

وبقدر ما نعتز بأن أصدقاء غير لبنانيين حريصون على لبنان ويريدون له الخير بالاستقرار والأمان وتآلف قلوب بني الوطن.. بالقدر نفسه يعز علينا أن مَن عليهم مثل هذا الواجب لا يفعلون ذلك، ونعني تحديدا القيِّمين على الدولة والقائمين على زعامات الأحزاب والتيارات السياسية.

ويستوقفنا من الحريصين غير اللبنانيين سفير بريطانيا لدى لبنان توم فيلتشر، الذي سجل لمناسبة سبعينية الاستقلال اللبناني رسالة خاطب فيها اللبنانيين بعبارات تستحثهم على أن يحبوا وطنهم ويؤمنوا به، ومنها «لمَ لا تستغلون مناسبة الذكرى السبعين للاستقلال لتذكُّر المعنى الحقيقي للاستقلال وكيف يجب أن يكون الاستقلال؟ ولمَ لا تضعون المصالح الوطنية ومصالح لبنان فوق مصالح الأسياد الأجانب؟ ولمَ لا تطلبون من قادتكم أن يقوموا بذلك أيضا؟ إن كان التعايش مستحيلا في لبنان فكيف لنا أن نؤمن بأنه سينجح في أي مكان آخر. أنتم الآن في مرحلة حاسمة ومن المبكر جدا لبلد أن يتقاعد في عمر السبعين. أنت يا لبنان أفضل بكثير مما تعترف به..»..

قبل هذه المفاجأة التي تأتي من جانب الدبلوماسي البريطاني الذي يشاركه فيها الكثيرون من الدبلوماسيين والسياسيين الأجانب الذين عرفوا لبنان، هنالك من سبق سعادته بخمس سنوات وأعني به الدكتور عبد العزيز خوجه عندما كان سفيرا للمملكة العربية السعودية لدى لبنان وكابد فواجع وويلات صراعات وشقاقات حفلت بها الساحة اللبنانية وكادت تهدد الكيان. وقبل أن يغادر كسفير أول لتسلُّم منصبه وزيرا للثقافة والإعلام، ودَّع لبنان بمرثاة شعرية وجدانية أرادها في الوقت نفسه نصيحة وصدى لما يريد الملك عبد الله بن عبد العزيز وإخوانه وشعب المملكة للبنان. وما زلنا مثل ألوف اللبنانيين الخفاقة قلوبهم بحب وطنهم والولاء له نحفظ من الأبيات الخوجية قوله:

لُبنانُ في قَلْبِنا نارٌ تُؤرِّقُنا... خَوْفا على بَلَدٍ قَدْ عَزَّهُ الأَزَلُ

لُبنانُ أَرْضُ الحِجى هَلْ لِلحِجَى أَجَلٌ... قد حلّ في جَدَلٍ أَمْ جاءَنا الأجَلُ

كَأَنَّ لُبنانَ لا أَرْضٌ ولا نَسَبٌ... وأَهْلُ لُبنانَ مِنْ لُبنانَ قد رَحَلوا

أينَ الثَقافَةُ هل جَفَّتْ منابِعُها... أَيْنَ النُهَى نورُهُ ضَاءَتْ بِهِ الدُوَلُ

جُرْحٌ عَلى الأَملِ المَكْسورِ يَنْحَرُني... لُبنانُ عُدْ أَمَلا فالجُرْحُ يَنْدَمِلُ

يا ساسَة البلَدِ المُسْتَنْجِدِ اتَّحِدوا... هَذي بِلادُكُمُ والسَهْلُ والجَبَلُ

وبذلك يكون معاليه السعودي سبق سعادته البريطاني. فللاثنين تحية باسم الذين على موعد مثلهما مع لبنان المستعيد نضارته مرة جديدة ومن دون أن يُترك المجال أمام مغامرة جديدة لهواة بعثرة الأوطان.