الطريق إلى المذبحة وأمور أخرى

TT

كتب ريتشارد غلاس، الصحافي المعروف، المختص بشؤون الشرق الأوسط، مقالة طويلة في «نيويورك ريفيو أوف بوكس» عن الأوضاع في سوريا، عنوانها «الطريق إلى المذبحة». وفهم أحد زملائه من ذلك أن غلاس يتوقع حصول المذبحة أو الهولوكوست السورية، التي لم تحصل بعد. فردَّ عليه بأن المذبحة حصلت بالفعل، وبأفظع مما حصلت مذابح النازيين ضد اليهود، وحتى مذابح رواندا وبوروندي في التسعينات. فقد اعتذر كثيرون في الحالتين بأنهم لم يعرفوا، واعتذر آخرون بأنهم ما قدّروا الأحجام والأهوال الحقيقية في الحالتين: اليهودية، والهوتو والتوتسي - أما في سوريا فإن حرب الإبادة جرت وتجري تحت سمع العالم وبصره. وتتبجح بالمشاركة فيها روسيا وإيران، كما يتبجح آخرون بالإعراض عن عمل أي شيء إما لتعقيد المسألة أو لأن الإرهاب الإسلامي يقف في وجه الأسد وهو لا يقل عنه شرا وهولا!

ثم أقبل بروكس - شأن غلاس- على ذكر الإحصائيات التقديرية لما حصل: نحو مائتي ألف قتيل، ونحو مليون معتقل، وثمانية ملايين مهجَّر بين الداخل والخارج. أما القتلى في فلسطين منذ عام 1948 وحتى حرب غزة عام 2010 فلا يتجاوز عددهم المائة ألف، وهناك نحو مليوني مهجر بين 1948 و1967، ومن الشعوب والجيوش العربية الأخرى هناك أيضا مائة ألف قتيل ونيف، كذلك خلال الفترة من 1948 وإلى حروب إسرائيل الأخرى في لبنان وسوريا وغزة والأردن ومصر. وما كان قصد غلاس وبروكس التقليل من هول ما فعلته إسرائيل، لكنهما أرادا القول إن النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني (وإن لم ينحل حتى الآن) فإنه بخسائره البشرية والسياسية أثار من الاهتمام الدولي أكثر بمئات الأضعاف مما أثاره الصراع على السلطة وحرب الإبادة في سوريا!

فهل الوضع الدولي بعد الحرب الباردة أكثر سوءا وانقساما مما كان عليه في الحرب بحيث يحدث الاستقطاب الحاصل منذ ثلاث سنوات؟ أم أن فلسطين أكثر أهمية من سوريا؟ أم أن اليهود أهم من السوريين والعرب؟ أم أن العرب أكثر ضعفا واستهدافا؟

لقد سأل ريتشارد غلاس الأسئلة الصحيحة كالعادة. لكنه عاد خائبا بإجابتين: السياسات الأميركية ضعفت وتغيرت، والإرهاب الإسلامي شكك الغرب في إمكان الحصول على بديل صالح لنظام الأسد. وخصوم غلاس لا يقبلون المعذرتين، لكنهم لا يخرجون من «البراديغم» السائد: عدم التدخل العسكري، وإيثار الحل السياسي، الذي لا يرونه هم أنفسهم متاحا أو قريبا!

ليس صحيحا بالطبع أن العالم لا تهتم دوله إلا بمصالحها الخاصة. فهناك قضايا إنسانية كبرى أهمها المذابح والمجاعات والأوبئة والزلازل، لا يختلف البشر في العادة على التدخل لمكافحتها. ولا يزال الأميركيون والغربيون بعامة يلومون أنفسهم للتأخر في التدخل بالبوسنة وكوسوفو ورواندا. وقد تدخل الفرنسيون والدوليون أخيرا في نزاعين بأفريقيا على الأقل. ويأسف الجميع للحاصل الآن في ليبيا، بيد أن أحدا منهم غير نادم على الخلاص من القذافي. فلماذا إذن ترك الحبل على غاربه للأسد والإيرانيين لقتل الشعب السوري؟ الاستقطاب الدولي ليس سببا على الإطلاق. فالأميركيون لا يساعدون النظام السوري، لكنهم مثل الروس (وليسوا ضدهم) في إيثار بقاء الأسد في ما يبدو ليس بسبب الإرهاب فقط؛ بل وبسبب تطورات علاقاتهم بإيران. فهم لا يريدون إزعاج الإيرانيين أكثر من اللازم، لأنهم مهتمون بإنهاء النووي، ومهتمون بدور الإيرانيين في العراق ولبنان وأفغانستان. وليسوا بعيدين عن وضع إيران في مواجهة «الإرهاب السني». ثم إنهم أولا وأخيرا يريدون التقدم في محادثات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وهو سلام لا تريده إيران أو أنها لا تزال تستخدم ذلك النزاع ورقة في علاقاتها الإقليمية والدولية. وهكذا فإن أمن الإسرائيليين المهدد من حزب الله وإيران أهم لديهم من حياة السوريين وحرياتهم واستقرارهم. بيد أن هذه الأسباب جميعا ورغم وجاهتها ليست أسبابا كافية. فالعرب والسوريون منهم لا يريدون حربا على إيران، ولا حتى مكافحة برنامجها النووي. أو أن هذين الأمرين ليسا مما يأخذه العرب على أوباما وسياساته. بل يأخذون عليه وعلى بوش من قبله، وعلى إدارتيهما، أنهم عملوا ويعملون بجد كأنما هي مصلحة أميركية خاصة على أن تشاركهم إيران وتركيا في الأرض العربية والأمن والسيادة، إما بغيا أو استضعافا! إن السبب الحقيقي الذي علا على الاعتبارات الإنسانية في نظر العالم الغربي وروسيا والصين والهند هو الاطمئنان إلى غياب العرب، واعتبارهم أسواقا وليس أكثر من ذلك، ليس للسلع فقط، بل وللسلاح أيضا. فقد عمل العرب بأساليب ملائمة وغير ملائمة خلال عقود للتحول إلى قوة بين المحيط والخليج ضامنة للأمن والثروات، ومشاركة في القرار العالمي. وقد حاولت ذلك مصر أولا، ثم حاوله العراق، فانكسر الأمن المصري أمام اعتبارات التفوق الإسرائيلي. ثم انكسر الأمن العربي العراقي أمام اعتبارات المصالح الدولية في الخليج. ومنذ عام 1990 لا يزال العرب يزدادون غيابا أو إمْعانا في الغياب، وبخاصة بعد التمرد الهائل وغير الملائم بالطبع لـ«القاعدة» والجهاديين الآخرين. وفي عام 2003 عندما غزا الأميركيون العراق، ما كان صدام حسين يهدد أحدا، لكن الأميركيين أرادوا الاطمئنان الكامل إلى الغياب العربي، بعد الانكفاء المصري شبه الكامل أيضا!

ومنذ عام 2003 وحتى عام 2011 انصرف الأميركيون (ثم دخل معهم الروس) لإقامة الشرق الأوسط الجديد بمشاركة إيران وتركيا وإسرائيل. وقد فعل الإيرانيون خلال هذه المدة أفظع مما فعله صدام، فقد احتلوا العراق وسوريا ولبنان بالعسكر وبالنفوذ السياسي. وعقدوا شبه اتفاق على ذلك مع الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا. فالخليج معزول لكنه آمن ما دام الأميركيون راضين عن ذلك، أو يصبح الإيرانيون سَوط تهديد. أما دول المشرق العربي الأخرى فهي إذا أريد لها أن تستقر فينبغي أن تظل مناطق نفوذ للدول المجاورة، أو تحدث المذابح، وتندفع إيران وإسرائيل وتركيا للحفاظ على الاستقرار أو استعادته بشتّى الوسائل، ومن ضمنها: مكافحة «الإرهاب» السوري ضمن الدولة السورية التي لهم حصة فيها بسبب مزارات آل البيت مثلا!

إن المشكلة الحاضرة إذن لدى الجميع هي في الحضور السعودي باعتباره رمزا أو طليعة لعودة الحضور العربي. وهذا قانون في التاريخ مثل الأنابيب المستطرقة. فالحضور العربي ببلاد الشام كان إمداده أو حمايته في مواجهة الغُزاة يأتيان من الجزيرة العربية أو من مصر. ليس الوقت وقت مصارعة الولايات المتحدة (وتابعتها بريطانيا). لكننا نواجه ما دمنا نريد الحضور عربيا أمرين اثنين: أمرا خارجيا هو العدوان الإيراني، وأمرا داخليا هو الانشقاقان داخل الإسلام: الانشقاق الجهادي، والانشقاق الإخواني. أما الهجوم الإيراني فيصارعنا على الأرض والانتماء العربي. وأما الانشقاقان الداخليان فيصارعاننا على شرعية الدين، وشرعية الدولة. وفي سوريا يلتقي الأمران ويشتبكان، ولذا فإن الصراع في سوريا هو صراع على الأرض والانتماء والدين والدولة، ولا بد من الفوز فيه.