بمناسبة الميلاد: تعالوا إلى استراتيجية (خفض التوتر الديني) في العالم

TT

في لقاء قريب له مع الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي الدكتور أكمل الدين أوغلي: دعا بابا الفاتيكان إلى معالجة (التوتر الديني) عبر العالم بهدف تخليق مناخ أفضل لـ(السلام العالمي).. ولقد فرحنا بهذه الدعوة لأنها دعوة حق وعقل من جهة، ولأن العالم في حاجة عملية إليها من جهة أخرى.. والثالثة أننا كنا قد دعونا إلى (خفض التوتر الديني) في العالم منذ ربع قرن تقريبا: في هذه الصحيفة ذاتها.

لماذا الترحيب القوي بهذه الدعوة العاقلة؟

المقتضيات الموضوعية كثيرة جدا، نذكر منها:

1 - أن العالم يشهد (صحوات دينية) متعددة متنوعة. ولهذه الصحوات أسباب موضوعية أيضا منها – مثلا:

أ - انكسار موجة الإلحاد، وتهافت مقولاته (كدعوة عالمية منظمة مدعومة من دولة كبرى مركزية (كالاتحاد السوفياتي سابقا)..

ب - مما عزز البحث عن الإيمان بالله: ظهور حقائق علمية ساطعة دالة - بيقنين - على وجود الله وبديع صنعه.

ج - المشكلات والأمراض النفسية والاجتماعية التي اجتاحت الأفراد والمجتمعات واضطرتهم إلى البحث عن (ملاذ) يورث الطمأنينة والشفاء.

هذه الأسباب - ونظائرها - جعلت قطاعات بشرية واسعة في قارات الأرض كافة، ومن جميع الأعراق والديانات تشعر بالحنين الفطري لخالقها، وإقامة علاقة معه، والأنس به جل ثناؤه.. ولقد مثُل هذا الحنين في صحوات دينية: إسلامية وكاثوليكية وأرثوذكسية ويهودية وبوذية.. و.. و.. و..

2 - أن هذه الصحوات الدينية أو العقدية مرشحة لأن تشحن بتوترات نفسية وفكرية عالية بسبب استدعاء مواريث تاريخية ذات لظى عقدي متقد.. أو بسبب خلط الديني بالسياسي والآيديولوجي على نحو غبي أو خبيث.. أو بسبب وجود مظالم عاتية تُحمّل العقائد، والأديان تبعاتها.. من هنا: وما لم يسارع عقلاء العالم وحكماؤه إلى (خفض التوتر الديني) في العالم - على مستوى الكوكب - فإن هذا التوتر سيتحول إلى هيجان صاخب يؤدي إلى صدامات مروعة مجنونة في الحياة اليومية: في الشوارع والأسواق والمساجد والكنائس والمواصلات. وفي كل مكان تقريبا.. ولا سيما أن (الطاقة الدينية) لا يعادلها شيء في قوة النفخ والدفع والتحريض.. وفي ذلك كله - بلا ريب - تقويض لـ(الأمن الدولي)، خاصة أننا في عالم إنساني متداخل الشؤون والعلاقات والاتصالات والمواصلات: تنتشر كل ديانة من الديانات التي ذكرناها آنفا فيه كله، بمعنى أن كل ديانة من هذه الديانات لها (عمق بشري جغرافي عالمي).

إن طاقات دينية هائلة متعددة الألسنة: الأعراق والبيئات × صحوات دينية متصاعدة × شحنات متضادة متبادلة × توترات عالية المعدلات: تقود إلى صدام رهيب يحطم المواثيق والعلاقات الدولية تحطيما.

3 - أن الخيارات المتاحة - والحالة هذه - هي:

أ - خيار إلغاء الطاقة الروحية أو الدينية، ومصادرة الصحوات الدينية - بالتالي - .. بيد أن هذا الخيار الديكتاتوري لا بد أن يبنى على مسلّمة تسبقه - زمنا وموضوعا - : مسلمة إرغام الناس جميعا على (الكفر الكامل) بالله، وبكل دين ومعتقد. وهذا خيار لا يقول به إلا الطوباويون البائسون الذين يتوهمون أن الكفر أو الإلحاد هو (الخلاص الوحيد) من الأزمات الدينية: الفردية والجماعية. إن هذا البديل البائس ليس حلا ولا مخرجا. فالكفر ذاته: أزمة طاحنة: نفسية وفكرية واجتماعية من حيث إنه موقف سلبي لا يستند إلى حجة علمية صحيحة، ولا يملك حلا من أي نوع: يوفر السعادة والراحة للإنسان الفرد، ولا الإنسان من خلال المجموع البشري.

ب - الخيار الثاني هو: خيار إكراه الناس - كلهم - على (ملة واحدة) فحسب.. ولسنا ندري ماذا يقول الآخرون في هذه المسألة. ولكننا نعلم من ديننا الإسلامي: أن الإكراه والجبر على دين أو ملة واحدة: جرائم ومقابح محرمة ممنوعة - بالقطع - في منهج الإسلام.. ومن الأدلة القرآنية الحاسمة على ذلك: ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ))..: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)).. ((وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ)).. ((وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)).

ثم إن خيار إكراه البشرية كلها على ملة واحدة هو خيار غير عقلاني، وغير واقعي، وغير أخلاقي، وغير إنساني، بمعنى أنه يتناقض مع كرامة الإنسان، ومع حقه في اختيار ما يريد من عقائد وأديان.

ج - الخيار الثالث هو: خيار ترك (التوتر الديني) يأخذ راحته ومداه في التجذر والاتساع والتصاعد والاتقاد والغليان والتلظي.. وهو خيار لا يرتضيه ولا يتبناه إلا من يريد إحراق الكوكب كله بنيران الصدامات الدينية.

د - أما الخيار الرابع - في هذا المجال - فهو (التوافق الدولي) على (خفض التوتر الديني) في عالمنا هذا.. ونقول (خفض) لأن الإلغاء الفوري التام - جملة واحدة - أمر غير ممكن من الناحية التطبيقية. إذ أن هذا الموضوع يتطلب تمهيدا مقترنا بتثقيف عميق ومكثف، وبطرح فكري سديد يغسل أدران التوتر، ويحل محله: الهدوء والسماحة والنزوع إلى السلام والتعايش والتسامح.

إن هذه قضية (استراتيجية) ربما تسبق - في الأولوية - قضية الأسلحة الفتاكة!!

نعم: المطلوب الآن: استراتيجية خفض التوتر الديني عبر العالم.. ومن صور التوافق العالمي على ذلك: أن يتحد العقلاء في كل أمة لكي يلجموا - بلا هوادة - مثيري التوتر الديني عندهم. أو كحد أدنى أن يجعلوا أصوات هؤلاء المثيرين خافتة خانسة وكأنها نقيق ضفادع أبعده عن الآذان أزيز الطائرة!

فإذا فعل عقلاء كل أمة ذلك: كان حاصل الجمع: أن عقلاء أمم الأرض جميعا قد اتحدوا على إماطة هذا الوباء عن الكوكب وهذا التقدم بلا شك.

إن أكبر أمتين يتبعان كتبا سماوية في عالمنا هذا هما المسلمون والمسيحيون.

وبمناسبة احتفال مسيحيي العالم - هذه الأيام - بميلاد المسيح عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم.. بهذه المناسبة نقول: نحن المسلمين لا نشعر بأي توتر ديني تجاه مسيحيي العالم - على أساس ديني - (بغض النظر عما كان وعما هو كائن من مظالم لبعض المسيحيين لأمتنا المسلمة).

وتجردنا من التوتر الديني تجاه مسيحيي العالم: ليس مجرد دبلوماسية منافقة، ولا مجرد مجاملة لمجموعة من البشر تجاورنا في هذا (الصالون الكبير)، أي الكوكب الأرضي.

إنما ينبع موقفنا الهادئ تجاه مسيحيي العالم من منهج عقدي واضح وملزم: هذه بعض خصائصه:

1 - أن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد عرفنا بالمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام تعرفة إيمان ومحبة من خلال الكتاب الذي أنزل عليه، وكذلك من خلال أحاديثه الشريفة.

نقرأ في القرآن الذي نزل على محمد:

أ - التعريف بمعجزة ميلاد المسيح: ((فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)).

ب - التعريف بالإنجيل الذي أنزل على المسيح: ((وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)).

ج - التعريف بشخصية المسيح الجميلة (الوجيهة): ((إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)).

ونقرأ في أحاديث النبي محمد:

أ - ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة. والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد)).

ب - جعل نبي الإسلام الإيمان بالمسيح عيسى ابن مريم طريقا إلى الجنة فقال: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)).

وأمة تؤمن بذلك كله: لا تشعر بتوتر ديني تجاه من يتبعون المسيح الذي عرّف به القرآن، وأثنى عليه نبي الإسلام، وربط بين الإيمان به والإيمان بعيسى ابن مريم نبيا رسولا.